الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : واستدل من ورث الإخوة والأخوات مع الجد بقوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ النساء 7 ] ، وبقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الأحزاب 6 ] ، والجد والإخوة يدخلون في عموم الآيتين فلم يجز أن يخص الجد بالمال دون الإخوة ، ولأن الأخ عصبة يقاسم أخته فلم يسقط بالجد كالابن طردا وبني الإخوة والعم عكسا .

                                                                                                                                            فإن قيل : هذا تعليل فاسد : لأن الأخ وإن عصب أخته يسقط بالأب وهو لا يعصب أخته ، فكذلك لا يمتنع أن تسقط بالجد الذي لا يعصب أخته .

                                                                                                                                            قيل : إنما سقطوا بالأب لمعنى عدم في الجد وهو إدلاؤهم بالأب دون الجد ، ولأن قوة الأبناء مكتسبة من قوة الآباء ، فلما كان بنو الإخوة لا يسقطون مع بني الجد ، فكذلك الإخوة لا يسقطون مع الجد .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا الجمع يقتضي أن يكون الإخوة يسقطون الجد كما أن بني الإخوة يسقطون بني الجد وهم الأعمام .

                                                                                                                                            قيل : إنما استدللنا بهذا على ميراث الإخوة لا على من سقط بالإخوة ، وقد دل على ميراثهم فصح ، ولأن كل من لا يحجب الأم إلى ثلث الباقي لا يحجب الإخوة كالعم طردا وكالأب عكسا ، ولأن كل سببين يدليان إلى الميت لشخص واحد لم يسقط أحدهما بالآخر كالأخوين وكابني الابن : لأن الأخ والجد كلاهما يدليان بالأب ، ولأن تعصيب الإخوة كتعصيب الأولاد : لأنهم يعصبون أخواتهم ويحجب الأم عن أعلى الوجهين ، ويفرض النصف للأنثى منهم ، والجد في هذه الأحوال كلها بخلافهم ، فكانوا بمقاسمة الجد أولى من سقوطهم به ، ولأن كل شخصين إذا اجتمعا في درجة واحدة وكان أحدهما يجمع بين التعصيب والرحم والآخر يتفرد بالتعصيب دون الرحم ، كان المتفرد بالتعصيب وحده أقوى ، كالابن إذا اجتمع مع الأب ، فلما كان الجد جامعا للأمرين والأخ مختص بأحدهما وجب أن يكون أقوى : لأن الجد والأخ كلاهما يدليان بالأب والجد يقول : أنا أبو أبي الميت ، والأخ يقول : أنا ابن أبي الميت ، فصار الأخ أقوى من الجد لثلاثة معان منها : أن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة ، والإدلاء بالبنوة أقوى ، ومنها أن من يدليان به وهو الأب لو كان هو الميت لكان للجد من تركته السدس وخمسة أسداسها للابن ، ومنها أن الأخ قد شارك الميت في الصلب وراكضه في الرحم ، وإذا كان الأخ أقوى من الجد بهذه المعاني الثلاثة ، كان أقل أحواله أن يكون مشاركا له في ميراثه ، ثم يدل على ذلك ما جرى من نظر الصحابة فيه ، فروي أن عمر - رضي الله عنه - كان يكره أن يذكر فريضة في الجد حتى صار هو جدا ، وذلك أن ابنه عاصما مات وترك أولادا ، ثم مات أحد الأولاد فترك جده عمر وإخوته ، فعلم أنه أمر لا بد من النظر فيه ، فقام في الناس فقال : هل فيكم من أحد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الجد شيئا ؟ فقام رجل فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن فريضة الجد فأعطاه السدس ، فقال : من كان معه من الورثة ؟ فقال : لا أدري ، قال : لا دريت ، ثم قال آخر سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فريضة [ ص: 124 ] الجد فأعطاه الثلث ، فقال : من كان معه من الورثة ؟ قال : لا أدري قال : لا دريت ؟ ثم دعا زيد بن ثابت فقال : إنه كان من رأيي ورأي أبي بكر قبلي أن أجعل الجد أولى من الأخ فماذا ترى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا يجعل شجرة خرج منها غصن ، ثم خرج من الغصن غصنان ، فيم تجعل الجد أولى من الأخ وهما خرجا من الغصن الذي خرج منه الجد ؟ ثم دعا علي بن أبى طالب وقال له مثل مقالته لزيد ، فقال علي : يا أمير المؤمنين لا تجعل واد سال فانشعبت منه شعبة ، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان ، فلو رجع ماء إحدى الشعبتين دخل في الشعبتين جميعا فيم تجعل الجد أولى من الأخ ؟ فقال عمر : لولا رأيكما أجمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أن أكون أباه .

                                                                                                                                            قال الشعبي : فجعل الجد أخا مع الأخوين ومع الأخ والأخت ، فإذا كثروا ترك مقاسمتهم وأخذ الثلث ، وكان عمر - رضي الله عنه - أول جد ورث مع الإخوة في الإسلام ، فهذه القصة وإن طال الاحتجاج بها تجمع خبرا واحتجاجا ومثلا فلذلك استوفيناها .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بأن الله تعالى سمى الجد أبا فهو أن اسم الأب انطلق عليه توسعا ، ألا ترى أن تسميته بالجد أخص من تسميته بالأب ؟ ولو قال قائل : هذا جد وليس بأب ، لم يكن مضلا ، والأحكام تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها ، ولا يتعلق عليه حكم الأب ، وكما تسمى الجدة أما ولا ينطلق عليها أحكام الأم .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن طرفه الأدنى يستوي حكم أوله وآخره ، فكذلك طرفه الأعلى ، فالجواب عنه أن ابن الابن لما كان كالابن في حجب الأم كان كالابن في حجب الإخوة ، ولما كان الجد مخالفا للأب في حجب الأم إلى ثلث الباقي كان مخالفا للأب في حجب الإخوة ، فيكون الفرق بين الطرفين في حجب الأم هو الفرق بينهما في حجب الإخوة ، وأما قياسهم على الابن بعلة أنه عصبة لا يعقل .

                                                                                                                                            فالجواب عنه أن استحقاق العقل دل على قوة التعصيب فلم يجز أن يجعل دليلا على ضعفه ، ألا ترى أن أقرب العصبات اختص بتحمل العقل من الأباعد ، لقوة تعصيبهم وضعف الأباعد ، وليس خروج الآباء والأبناء عن العقل عنه لمعنى يعود إلى التعصيب فيجعل دليلا على القوة ، كما لا يجوز أن يجعل دليلا على الضعف وذلك لأجل التعصيب ، ثم المعنى في الابن أنه لما كان أقوى من الأب أسقط الإخوة المدلين بالأب ، فلما لم يكن الجد أقوى من الأب لم يسقط الإخوة المدلين بالأب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الجد قد جمع الولادة والتعصيب كالأب فهو أن الأب إنما أسقطهم لإدلائهم به لا لرحمه وعصبته ، ألا ترى أن الابن وإن انفرد بالتعصيب وحده أقوى من الأب والجد ، وهكذا الجواب عن قولهم يجمع تعصيبا ورحما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن إدلاء الجد بابن وإدلاء الأخ بأب فهو ما قدمناه دليلا من أن إدلاء الأخ بالبنوة وإدلاء الجد بالأبوة لإدلائهما جميعا بالأب ، فكان إدلاء الأخ أقوى .

                                                                                                                                            [ ص: 125 ] وأما استدلالهم بولاية الجد في المال والتزويج فليس ذلك من دلائل القوة في الميراث ، ألا ترى أن الابن لا يلي ولا يزوج وهو أقوى من الأب وإن ولي وزوج .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأنه لو شاركه في موضع لشاركه في كل موضع ، فالجواب عنه أن كل موضع ورث الجد فيه بالتعصيب الذي شارك الأخ فيه فإنه يشاركه في ميراثه لا لميراثهما في نسبه ، وإنما لا يشاركه في الموضع الذي لا يرث الجد فيه بالرحم : لأنه ليس للأخ رحم يساويه فيها .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأن الجد لا يخلو من أحوال ثلاثة ، فالجواب عنه أن الجد والإخوة مجتمعون على الإدلاء بالأب فلم يضعف عنه الأخ للأب بعد الأم لمساواته فيما أدلى به ، كما لم يقو عليه الأخ للأب والأم بأمه ، وليس كذلك حال الإخوة حالهم بعضهم مع بعض : لأنهم يدلون بكل واحد من الأبوين ، فكان من جمعهما أقوى ممن انفرد بأحدهما ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية