الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإذا كان فيهم غارمون لا أموال لهم فقالوا أعطنا بالغرم والفقر ، قيل لا إنما نعطيكم بأي المعنيين شئتم ، فإذا أعطيناه باسم الفقر فلغرمائه أن يأخذوا مما في يديه حقوقهم ، وإذا أعطيناه بمعنى الغرم أحببت أن يتولى دفعه عنه ، وإلا فجائز كما يعطى المكاتب ، فإن قيل : ولم لا يعطى بمعنيين : قيل الفقير مسكين والمسكين فقير يجمعهما اسم ويتفرق بهما اسم فلا يجوز أن يعطى إلا بأحد المعنيين ، ولو جاز ذلك جاز أن يعطى رجل بفقر وغرم وبأنه ابن سبيل وغاز ومؤلف فيعطى بهذه المعاني كلها ؛ فالفقير هو المسكين ومعناه ألا يكون غنيا بحرفة ولا مال ، فإذا جمعا معا فقسم لصنفين بهما لم يجز إلا أن يفرق بين حاليهما بأن يكون الفقير الذي بدئ به أشدهما فقرا ، وكذلك هو في اللسان " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل من أهل الصدقات جمع بين سببين يستحق بكل واحد منهما سهما فيهما كغارم فقير وعامل مسكين طلب أن يعطى بالفقر أو بالغرم ، أو بالعمالة والمسكنة ، فالذي نص عليه الشافعي في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يجوز أن يجمع له بهما ولا يعطى إلا بأحدهما ، وقال في كتاب فرض الزكاة من قسم الصدقات : أنه يجوز أن يعطى بالسببين ، فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب : أحدهما وهو قول أبي حامد الإسفراييني وكثير من البغداديين : أن ذلك على قولين لاختلاف نصه في الموضعين .

                                                                                                                                            أحد القولين : أنه لا يجوز أن يعطى إلا بأحد السببين وهذا هو الأشهر . قوله : والأصح من مذهبه لئلا يؤدي ذلك إلى الأخذ بجميع الأسباب كما لا يورث المجوسي إذا اجتمعت له قرابتان إلا بأحدهما .

                                                                                                                                            والقول الثاني : يجوز أن يعطى بهما معا : لأنه لما جاز أن يأخذ بالسبب الواحد إذا انفرد به جاز أن يأخذ بالسببين إذا اجتمعا فيه وكما يجوز أن يورث الزوج إذا كان ابن عم لها بالسببين .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : قاله أبو حامد المروزي وجمهور البصريين : أن ذلك على قول واحد لا يعطى إلا بأحدهما ولا يجمع له بينهما ، وما قاله في فرض الزكاة من جواز إعطائه بالسببين محمول على أنه من زكاتين .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : أنه يجوز أن يعطى بالسببين إذا اختلفا ولا يجوز أن يعطى بهما إذا [ ص: 541 ] اتفقا ، فاختلافهما أن يكون أحدهما لحاجته إلينا والآخر لحاجتنا إليه كالعامل إذا كان فقيرا والغازي إذا كان مسكينا ، واتفاقهما أن يكونا معا لحاجته إلينا كالفقير إذا كان غارما والمسكين إذا كان مكاتبا ، كما أنه لا يورث أحد بسببين متفقين كفرضين أو نصيبين ويورث بسببين مختلفين من فرض وتعصيب ، فإذا تقرر هذا وقيل : إنه لا يعطى بهما وكان فقيرا غارما ، خير في إعطائه بأي السببين شاء من فقر وغرم ، فإن اختار أن يعطى بالفقر سلم إليه وكان لصاحب الدين أن يأخذه من دينه ، وإن اختار أن يعطى بالغرم جاز أن يسلم إليه وجاز أن يعطيه لصاحب الدين بأمره .

                                                                                                                                            فإن قيل : فأيهما أولى ؟ قلنا : إن كان بقدر دينه كله فأولى دفعه إلى صاحب الدين ، وإن كان أقل فالأولى دفعه إلى الغارم لعله أن يتجر به فينمى ، وإن قيل : يجوز أن يعطى بالسببين ، أعطي بالفقر والغرم ، فإن كان في سهم الغرم وفاء لدينه استبقي سهم الفقر ، وإن كان يعجز عن دينه كان له أن يأخذ منه سهم الفقر ليستوفي دينه ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية