الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : في خلع الثلث

                                                                                                                                            قال مالك بن أنس - رحمة الله عليه - : [ ص: 266 ] " إذا أوصى الرجل بمائة دينار له حاضرة وترك غيرها ألف دينار دينا غائبة : فالورثة بالخيار بين إمضاء الوصية بالمائة كلها عاجلا ، سواء أمضى الدين وسلم الغائب أم لا ، وبين أن يسلموا ثلث المائة الحاضرة وثلث الدين من المال الغائب ويصير الموصى له بالمائة شريكا بالثلث في كل التركة وإن كثرت وسمي ذلك خلع الثلث ، واستدلالا بأن للموصى له ثلث ماله ، فإذا غير الوصية في بعضه ، فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه ، فصار لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصى له ، فهذا دليل مالك وما عليه في هذا القول .

                                                                                                                                            واستدل إسماعيل بن إسحاق بأن تعيين الموصي للمائة الحاضرة من جملة التركة الغائبة بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بأرش جنايته ، أو تسليمه .

                                                                                                                                            فهذا مذهب مالك ودليلاه .

                                                                                                                                            ومذهب الشافعي : أن للموصى له ثلث المائة الحاضرة ، وثلثاها الباقي موقوف على قبض الدين ووصول الغائب ، لا يتصرف فيه الوراث ولا الموصى له ، وإذا قبض الدين ووصل من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه أمضيت الوصية بجميع المائة .

                                                                                                                                            وإن وصل ما يخرج بعضها أمضي قدر ما احتمله الثلث منها ، فإن برئ الدين وقدم الغائب ، استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة وتصرف الورثة في ثلثيها ؛ لأنها صارت جميع التركة .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين ووصول الغائب ، هل يمكن الموصى له من التصرف في ثلث المائة ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يمكن من التصرف فيها ؛ لأنه ثلث محض .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يمنع من التصرف فيها ؛ لأنه لا يجوز أن يتصرف الموصى له فيما لا يتصرف الورثة في مثليه ، وقد منع الورثة من التصرف في ثلث المائة الموقوف ، فوجب أن يمنع الموصى له من التصرف في الثلث الممضي .

                                                                                                                                            والدليل على فساد ما ذهب إليه مالك أنه يئول إلى أحد أمرين بمنع الوصية منها ؛ لأنه إذا خير الورثة بين التزام الوصية في ثلث كل التركة ، أو إمضاء الوصية في كل المائة ، فكل واحد من الأمرين خارج عن حكم الوصية ، لأنهم إذا اختاروا منعه من كل المائة ، فقد ألزمهم ثلث كل التركة ، وذلك غير موصى له ، [ ص: 267 ] وإن اختاروا ألا يعطوا ثلث التركة ، فقد ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائة ، فعلم فساد [ دليل ] مذهبه بما يئول إليه حال كل واحد من الخيارين .

                                                                                                                                            وأما جعلهم تعيين الوصية بالمائة الحاضرة أدخل ضررا ، فالضرر قد رفعناه بوقف الثلثين ، فعلى قبض الدين ووصول الغائب ، فصار الضرر بذلك مرتفعا ، وإذا زال الضرر ارتفعت الجناية منه فبطل الخيار فيه .

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما وصفناه يفرع على ذلك :

                                                                                                                                            أن يوصي بعتق عبد حاضر وباقي تركته التي يخرج كل العبد من ثلثها دين غائب ، فيعتق في العبد ثلثه ويوقف ثلثاه على قبض الدين ووصول الغائب .

                                                                                                                                            فإذا قبض أوصل منهما ، أو من أحدهما كما يخرج كل العبد من ثلثه لعتق جميعه وهل يمكن الورثة في خلال وقف الثلثين الموقوفين من العبد أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يمكنون من ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لا ينتفعوا بمثليه ، وهذا على الوجه الذي يقول إن الموصى له بالمائة إذا وقف ثلثيها منع من التصرف في ثلثها اعتبارا بالتسوية .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن تلف الدين وتلف الغائب ، استقر ملكهم على ما وقف من ثلثيه وجاز لهم بيعه .

                                                                                                                                            وإن قبض من الدين ، أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع العبد عليهم بما أخذه من كسبه وأجرة خدمته وليس للورثة أن يرجعوا على العبد بما أنفقوه عليه أو استخدموه ؛ لأنه قد كان لهم إجازة عتقه ، فصاروا متطوعين بالنفقة عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنهم يمنعون من ذلك ، كما يمنعون من التصرف بالبيع ؛ لأن الظاهر نفوذ الوصية بعتقه وهذا على الوجه الذي يجوز للموصى له التصرف في ثلث المائة وإن منع الورثة من التصرف في ثلثيها .

                                                                                                                                            فعلى هذا إن برئ الدين وتلف الغائب رق ثلثاه ورجع الورثة بثلثي كسبه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية