الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 393 ] باب الأنفال

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب للقاتل . قال أبو قتادة - رضي الله عنه - : خرجنا مع رسول الله عام حنين قال : فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر فقال ما بال الناس ؟ قلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقمت فقلت من يشهد لي ، ثم جلست يقول وأقول ثلاث مرات فقال - صلى الله عليه وسلم - : مالك يا أبا قتادة ؟ فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صدق فأعطه إياه " فأعطانيه فبعت الدرع وابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام ، وروي أن بشير بن علقمة قال بارزت رجلا يوم القادسية فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفلنيه سعد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال من قتل من المسلمين مشركا في معركة الحرب فله سلبه ، سواء شرطه الإمام له أو لم يشترطه ولا يخمسه .

                                                                                                                                            وقال مالك : له سلبه من غير شرط ، لكن يخمسه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ليس له سلبه إلا أن يشترطه الإمام له فيعطيه للشرط من جملة الخمس استدلالا بعموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] .

                                                                                                                                            ورواية معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه وبرواية عوف بن مالك الأشجعي قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني رجل من أهل اليمن فقتل روميا فأخذ سلبه ، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب فأتيته فقلت : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ولكني استكثرته ، قلت لتردنه عليه أو لأعرفنكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرده ، [ ص: 394 ] فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصت عليه قصة اليمني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا خالد ، اردده عليه ، قال عوف : فقلت يا خالد ألم أقل لك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ فأخبرته فغضب وقال : يا خالد لا ترده عليه ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره " .

                                                                                                                                            قال أصحاب أبي حنيفة : فلو استحقه القاتل لما استجاز أن يمنعه منه لغضب ولا غيره ، قالوا : وقد روي أن معاذ بن عوف ومعاذ بن عمرو قتلا أبا جهل يوم بدر فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه معاذ بن عمرو ، فلو كان للقاتل ما خص به أحدهما .

                                                                                                                                            واستدلوا من طريق القياس بأن قالوا : كل مال يستحق بالتحريض على القتال يجب أن يتعلق استحقاقه بشرط الإمام كالنفل ، ولأن السلب لو استحق بالقتل لوجب إذا قتل وليا ، أو رماه من صفة بسهم فقتله أن يستحق سلبه ، فلما ثبت أنه لا يستحقه مع وجود القتل ثبت أنه لا يستحق بالقتل ، ولأن السلب لو صار بالقتل ملكا للقاتل لوجب إذا وجد قتيلا عليه سلب لا يعرف قاتله ألا يغنم به ؛ لأنه قد صار ملكا لمسلم لا يعرف وفي إجماعهم على قسمة في الغنيمة دليل على أنه غير مستحق بالقتل .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه أبو مالك الأشجعي عن نعيم بن أبي هند عن سمرة بن جندب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا فله سلبه وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر : من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة الأنصاري يومئذ عشرين كافرا فأخذ أسلابهم .

                                                                                                                                            ووجه الدليل من هذا الخبر أنه ابتداء شرع بين فيه فاستحق به السلب وهو القتل ، واعتمد الشافعي على ما رواه عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير عن أبي حمد مولى أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه قال : فضربته على حبل عاتقه ضربة ، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقلت له : ما بال الناس ؟ فقال أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا فله سلبه فقمت فقلت من يشهد لي ؟ فجلست ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا عليه بينة فله سلبه فقمت وقلت من يشهد لي ؟ فجلست ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقمت ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما لك يا أبا قتادة ؟ فاقتصصت عليه القصة ، فقال [ ص: 395 ] رجل من القوم : صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه عني ، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فأعطه إياه قال أبو قتادة : فأعطانيه ، فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام ، ووجه الدلالة منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعد الوقعة وإجازة الغنيمة وبعد قتل أبي قتادة للكافر ، فعلم أنه يستحق بالقتل لا بالشرط ، فإن حملوا على شرط تقدم منه لم يصح من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه إثبات ما لم ينقل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه بيان شرع وإن تقدم كما يكون بيانه ؛ لأنه نقل سبب علق عليه حكم . والثالث : أنه لو تقدم شرط لأخذه أبو قتادة ولم يدعيه ، أو لا يشهد لنفسه على قتله ، فإن قيل : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل السلب للقاتل بالبينة وقد أعطاه أبا قتادة بغير بينة فدل على أنه أعطاه نفلا لاحقا ، فعن ذلك جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن من كان يده على السلب فقد صدقه فلم يحتج إلى بينة .

                                                                                                                                            والثاني : روي أنه شهد لأبي قتادة اثنان عبد الله بن أنيس والأسود بن خزاعي ويدل عليه من القياس أنه مال مغنوم ، يستحق بسبب لا يفتقر تقديره إلى اجتهاد الإمام ، فوجب ألا يعتبر فيه شرط الإمام كسهم الغانمين طردا أو النفل عكسا ، ولأنه ذو سهم تحرر بنفسه في قتل كافر فقاتل ، فوجب أن يستحق سلبه قياسا عليه إذا شرطه الإمام له وأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن السلب خارج فيها ؛ لأنه قال : واعلموا أنما غنمتم من شيء [ الأنفال : 41 ] وليس السلب ما غنموه وإنما غنمه أحدهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه بيان لما فيه من الإجمال وأما الجواب عن قوله ليس لأحد إلا ما طابت به نفس إمامه فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن نفس الإمام - إمام الأئمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد طابت به فكانت أوكد من أن تطيب به نفس إمام من بعده .

                                                                                                                                            والثاني : أنه عام يحمل على النفل ويخص منه السلب وأما حديث عوف بن مالك فهو دليل لنا من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن عوفا وخالدا اتفقا على أن السلب للقاتل ، ولكن استكثره خالد واستحقاق السلب لا يسقط بالكثرة .

                                                                                                                                            والثاني : أن عوفا حين أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل عن الشرط .

                                                                                                                                            [ ص: 396 ] والثالث : أنه أمر خالدا برده على القاتل ، فأما قوله لخالد حين غضب " لا ترده " فتأديب منه لعوف حتى لا ينبسط الرعايا على الأمراء ، ويحتمل أن يكون قد رده من بعد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن إعطائه سلب أبي جهل لأحد قاتليه فالمروي أن ابني عفراء أثخنا أبا جهل جراحا وخر صريعا فأتاه ابن مسعود ليجز رأسه ، فقال له أبو جهل : من أنت ؟ فقال : ابن مسعود ، فقال له أبو جهل : ابن أم عبد رويعينا بالأمس فمكن يديك وجز الرقبة مع الرأس إذا لقيت أمك فأخبرها أنك قتلت أبا الحكم ، ففعل ذلك وأخذ رأسه مع الرقبة وكان قصد أبي جهل أن يكون ذلك أبهى لرأسه ، ثم أخبر أمه بذلك فقالت : والله لقد أعتق تسعين رجلا من قومك . ودفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني عفراء أو إلى أحدهما بحسب اختلاف الرواية ؛ لأنه قد كان أثخنه بالجراح وبإثخان المقتول يستحق السلب لا بإماتة نفسه وروحه ، وأما الجواب عن قياسهم على النفل فالمعنى فيه افتقار النفل إلى تقدير الإمام وليس كذلك السلب .

                                                                                                                                            وأما الجوب عن قولهم : لو كان مستحقا بالقتل لاستحقه إذا قتله موليا أو رماه بسهم ، فهو أنه مستحق بقتل على صفة وهو أن يكون للقاتل مغرارا بنفسه ويكف شر المقتول بقتله وهو إذا رماه لم يغرر وإذا قتله موليا فقد كف المولي شر نفسه ، ألا تراه لو استحقه بشرط الإمام لم يستحقه إلا على هذه الصفة ، وأما الجواب عن قولهم : لو كان السلب مستحقا بالقتل لوجب ألا يغنم سلب مقتول لا يعرف قاتله فهو أنه قد يستحق بقتل على صفة لم يغنم بغنيمة فيمنع من قسمه ؛ فلذلك قسم ألا ترى لو شرطه الإمام لكان مغنوما إذا لم يتيقن مستحقه ؛ لجواز أن يكون القتل على صفة لا يستحق بها السلب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية