ثم ، وسببها أن مشركي غزوة أحد قريش لما عادوا من بدر إلى مكة ، وجدوا العير التي قد قدم أبو سفيان بها من الشام بأموالهم ، موقوفة في دار الندوة ، فمشى أشرافهم إلى أبي سفيان ، وقالوا له : قد طابت أنفسنا أن نجهز بربح هذه العير جيشا إلى محمد : لنثأر منه بقتلانا ، فقال : أنا وبني عبد مناف أول من يجيب إلى هذا ، وكانت ألف بعير ، والمال خمسون ألف دينار ، وكانوا يربحون للدينار دينارا ، فأخرجوا منها [ ص: 33 ] أرباحهم ، وأنفذوا رسلهم ؛ يستنفرون قبائل العرب لنصرتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأجمع رأيهم على إخراج الظعن من نسائهم معهم : لتحريضهم لهم ، وتذكيرهم بمن قتل منهم ، وكان أبو عامر الراهب قد مضى إلى مكة في خمسين رجلا من منافقي قومه ، فحرض قريشا ، وأعلمهم أن الأنصار إذا رأوه أطاعوه ، فكتب العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبرهم .
وسار أبو سفيان بهم ، وهم ثلاثة آلاف رجل ، وظعنهم خمس عشرة امرأة من نساء أشرافهم ، وفيهم سبعمائة درع ، ومائة رام ، ومائتا فرس ، وثلاثة آلاف بعير ، حتى نزل بأحد ، وكان وحشي غلاما حبشيا لجبير بن مطعم ، يقذف بحربة له قذف الحبشة ، قلما يخطئ ، فأخرجه مع الناس ، وقال : إن قتلت حمزة بن عبد المطلب عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق ، وجعلت له هند بنت عتبة في قتله ما اقترح ، وكان إذا مر بها قالت : إيه أبا دسمة اشف واشتف ، وكان يكنى أبا دسمة .
ولما نزلت قريش بأحد ، ذلك في يوم الأربعاء الرابع من شوال ، ، وكان رأيه ألا يخرج إليهم ، ويقيم استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالمدينة ، حتى يقاتلهم فيها ، ووافقه على رأيه شيوخ الأنصار ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، وقال : يا رسول الله ما قاتلنا ودخل المدينة علينا أحد إلا ظفرنا به ، ولا خرجنا إليه إلا ظفر بنا ، وكان رأي أحداث الأنصار الخروج إليهم : لتأخرهم عن بدر ، فغلب رأي من أراد الخروج ، وأقامت قريش بأحد بقية يوم الأربعاء ، ويوم الخميس ، ويوم الجمعة .
فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بالمدينة ، ثم العصر ، ثم دخل منزله ، فلبس لأمة سلاحه ، وظاهر بين درعين ، فلما رآه الناس ندموا على ما أشاروا عليه من الخروج ، وقال لهم أسيد بن الحضير ، وسعد بن معاذ : أكرهتموه على الخروج ، والوحي ينزل عليه ، فقالوا : يا رسول الله اصنع ما شئت . فقال : وسار في ألف رجل من ما كان لنبي لبس لأمة سلاحه أن ينزعها حتى يقاتل المهاجرين والأنصار فيهم مائة دارع ، ولم يكن معهم إلا فرسان : أحدهما : لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآخر لأبي بردة بن نيار ، واستخلف على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم ، ودفع لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب .
وقيل : إلى مصعب بن عمير ، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى خباب بن المنذر .
وقيل إلى سعد بن عبادة ، ونزل بالشيخين ، وهما أطمان ، كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما ، فيتحدثان فنسبا إليهما وهما في طرف المدينة ، فصلى المغرب ثم استعرض أصحابه ، فرد منهم لصغره زيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ، وأبا سعيد الخدري ، وأسيد بن ظهير ، وعرابة بن أوس وهو الذي قال فيه الشماخ :
[ ص: 34 ]
رأيت عرابة الأوسي ينمي إلى الخيرات منقطع القرين
ورد رافع بن خديج ، وسمرة بن جندب ، ثم أجازهما ، وأقام بمكانه أكثر الليل ، ثم سار إلى أحد ، فانخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من قومه ، ومن تابعه من المنافقين ، وعاد إلى المدينة وقال : علام نقتل أنفسنا ؟وبقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة رجل ، فسار حتى نزل صبيحة يوم السبت السابع من شوال بالشعب من أحد ، وأر الرماة - وهم خمسون رجلا - أن يقفوا عند الجبل ، وجعل عليهم عبد الله بن جبير ، وأن يرموا الجبل من ورائهم ، وقال لهم : ، وجعل على الخيل لا تبرحوا من مكانكم إن كانت لنا أو علينا الزبير بن العوام ، وصافوا العدو ، وتقدم أبو عامر الراهب في الأحابيش والعبيد ، ونادى الأوس فقالوا : لا مرحبا بك ولا أهلا ، وصدقوا القتال ، فانهزمت قريش ، وتشاغل المسلمون بالغنيمة ، وزال الرماة عن مواقعهم ؛ طلبا للغنيمة ، فبدر النساء يضربن بالدفوف ، ويحرضن الرجال ويعلن :
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
فعادت قريش ، وعطف خالد بن الوليد في الجبل إلى من وراء المسلمين ، فانهزموا ووضع فيهم السيف ، فقتل منهم سبعون رجلا عدة من قتل من المشركين يوم موقف الرماة بدر ، فيهم حمزة بن عبد المطلب ، قتله وحشي ، ومثل به ، وبقرت هند بطنه ، وأخذت كبده ، فلاكتها بفمها ، ثم لفظتها ، ومثل بجماعة من المسلمين ، وكسرت رباعية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابها عتبة بن أبي وقاص ، وشجه في جبهته ، وضربه ابن قميئة بالسيف على شقه الأيمن فاتقاه طلحة بن عبيد الله ، فشلت أصبعه وادعى أنه قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاع الخبر به في المسلمين ، والمشركين ، فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قد قتل ، فإن رب محمد لم يقتل ، ولم يبق مع نبي الله إلا أربعة عشر رجلا : سبعة من المهاجرين منهم : أبو بكر ، وعلي ، وطلحة والزبير . وسبعة من الأنصار ، وانهزم الباقون بعد أن قتل بين يديه من المسلمين نحو ثلاثين رجلا كلهم يتقدم بين يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الوفاء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك سلام الله ، غير مودع ، وقتل من المشركين أربعة وعشرون رجلا منهم أصحاب اللواء من بني عبد الدار ، [ ص: 35 ] وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في منامه كأنه في درع حصينة ، وكأن سيفه ذا الفقار قد انثلم ، وكأن بقرا تذبح ، وكأنه مردف كبشا ، فأخبر بها أصحابه ، وتأولها أن الدرع الحصينة هي المدينة ، وأن انثلام سيفه هي مصيبة في نفسه ، وأن ذبح البقر هو قتل في أصحابه ، وأن إرداف الكبش هو كبش الكتيبة ، يقتله الله ، فصح تأويلها ، وكان الكبش - قيل - طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين ، ثم إخوته يأخذون اللواء فيقتلون ، وكان أبي بن خلف برز إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس له بأحد حلف أن يقتله عليها ، فقال رسول ، صلى الله عليه وسلم : " أنا أقتله إن شاء الله ، وبرز إليه فرماه بحربة كسر بها أحد أضلاعه بجرح كالخدش ، وهو يخور كالثور ، ويقول : والله لو تفل علي لقتلني ، ومات بسرف ، ثم برز أبو سفيان بعد انجلاء الحرب فنادى : أين محمد ؟ فلم يجبه أحد . ثم قال : أين ابن أبي قحافة ؟ فلم يجبه أحد . فقال أين ابن الخطاب ؟ فلم يجبه أحد . فقال : أين ابن أبي طالب ؟ فلم يجبه أحد . فقال : الآن قتل محمد ، ولو كان حيا لأجبت . فقال عمر : كذبت يا عدو الله ، هذا رسول الله ، يسمع كلامك . فقال أبو سفيان : ألا إن الأيام دول ، والحرب سجال ، يوم أحد بيوم بدر ، وحنظلة بحنظلة - يعني حنظلة بن الراهب المقتول بأحد بحنظلة بن أبي سفيان المقتول ببدر - فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال أبو سفيان : اعل هبل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : قل له : . فقال الله أعلى وأجل أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر : قل له : . الله مولانا ولا مولى لكمفقال أبو سفيان : أما إنه قد كانت فيكم مثلة ما أمرت بها ولا نهيت عنها ، ولا سرتني ، ولا ساءتني ، ثم ولى ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في آخر يومه ، وهو يوم السبت ، ولم يغسل قتلى أحد ، واختلف في صلاته عليهم ، وأمر بدفنهم في مصارعهم ، فدفنوا فيها إلا من سبق حمله ودفنه في المدينة ، ولما كان من الغد ، وهو يوم الأحد الثامن من شوال ، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وأمر بلالا فنادى في الناس بالخروج لطلب عدوهم ، وأن لا يخرج معه إلا من شهد أحدا وسار ودفع لواءه إلى أبي بكر ، وقيل : إلى علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، وسار وهو مكلوم إرهابا لقريش ، حتى بلغ حمراء الأسد ، وبها قريش يتآمرون في الرجوع إلى المدينة ، وصفوان بن أمية ينهاهم إلى أن ساروا إلى مكة ، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لم يلق كيدا ، وسميت هذه السنة عام أحد ؛ لأنها أعظم وقائعها ، وكان فيها خمس غزوات ، وسرية واحدة .