الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ سقيفة بني ساعدة ]

                                                                                                                                            ولما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت الأنصار ، وأخرجوا سعد بن عبادة ، وكان وجعا من مرض به ، فقال سعد : يا معشر الأنصار ، إن لكم سابقة في الدين أراد بكم ربكم الفضيلة ، وساق إليكم الكرامة بإعزاز دينه ، وجهاد أعدائه حتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض ، ودانت له بأسيافكم العرب ، وتوفاه الله إليه ، وهو عنكم راض فاشتدوا بهذا الأمر دون الناس فإنه لكم دون غيركم ، فأجابوه بأجمعهم ، قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ونحن نوليك هذا الأمر ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب : فأرسل إلى أبي بكر وهو مع علي بن أبي طالب في جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشعره بالأمر ، فخرج ومضى مع عمر ولقيا أبا عبيدة بن الجراح فصحبهما ، ولقيهما رجلان من الأنصار ممن شهد بدرا وهما : عويم بن ساعدة وفيه نزل قول الله تعالى : رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ التوبة : 108 ] . فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : نعم المرء عويم بن ساعدة والآخر معن بن عدي سمع الناس حين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكون ويقولون : وددنا لو متنا قبله فقال معن : والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا فلما رأى أبو بكر ومن معه قال : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قالوا : نريد إخواننا الأنصار فقال : ارجعوا فاقضوا أمركم بينكم ، فأبوا أن يرجعوا ومشى إليهم الثلاثة فجاءوا وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة على سعد بن عبادة ، فأراد عمر أن يتكلم فقال له أبو بكر : رويدا فسكت ، وكان قد زور في نفسه كلاما ، وابتدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله تعالى بعث محمدا رسولا إلى خلقه وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى يزعمون أنها لهم عنده شافعة ولهم نافعة وإنما هي حجر منحوت وخشب منجور ، فصدقه من قومه من خالف جميع العرب ، ولم يستوحش من قلة العدد ، فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر بعده ، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم وأنتم يا معشر الأنصار ممن لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام ، رضيكم الله أنصارا [ ص: 99 ] لدينه ، ولرسوله ، وجعل إليكم هجرته ، فليس بعد المهاجرين عندنا بمنزلتكم ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء فقام المنذر بن حباب بن الجموح ، وقيل بل هو الحباب بن المنذر ، فقال : يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ، فإن الناس فيكم ، ولن يجترئ على خلافكم ، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم ، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم ، فمنا أمير ومنهم أمير ، فقال عمر : هيهات ، لا يجتمع اثنان في قرن ، إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، وأولاهم بها من كانت النبوة فيهم ، لنا به الحجة الظاهرة والسلطان البين ، لا ينازعنا سلطان محمد - ونحن أولياؤه - إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة .

                                                                                                                                            فقال الحباب بن المنذر : يا معشر الأنصار ، لا تستمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم : فأجلوهم من بلادكم فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم ، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة ، فقال عمر : إذن يقتلك الله ، فقال : بل إياك يقتل .

                                                                                                                                            فقال أبو عبيدة : يا معشر الأنصار ، أنتم أول من نصر وآوى : فلا تكونوا أول من غير وبدل .

                                                                                                                                            فقام بشر بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال : يا معاشر الأنصار ، إنا وإن كنا أول سابقة في الدين وجهاد المشركين ، فما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا ، ألا إن محمدا من قريش ، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا ، فاتقوا الله ولا تخالفوهم .

                                                                                                                                            فقال أبو بكر : هذا عمر ، وأبو عبيدة فبايعوا أيهما شئتم ، فقالا : لا والله ، لا نتولى هذا الأمر عليك : وأنت أفضل المهاجرين ، وثاني اثنين إذ هما في الغار ، وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصلاة ، والصلاة أفضل دين المسلمين ، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك ، ابسط يدك نبايعك ، فمد يده فبايعاه ، وقيل : بل سبقهما إلى البيعة بشير بن سعد ، وجاء أسيد بن حضير في الأوس فبايعوه ، وتتابعت الأنصار إلى بيعته ، وأقبلت أسلم بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوه ، فكان عمر يقول : ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر ، وقيل لعلي - عليه السلام - : قد جلس أبو بكر للبيعة ، فخرج بقميص ما عليه إزار حتى بايعه مخافة أن يبطئ عن البيعة ، حكاه حبيب بن أبي ثابت .

                                                                                                                                            وروى ابن حجر أن أبا سفيان بن حرب قال لعلي : ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ! والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا ! فقال علي : يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذلك شيئا ! إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا ، فتمت بيعة أبي بكر قبل جهاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أخذ بعدها في جهازه ؛ لئلا يكونوا فوضى على غير جماعة لتنطفئ بها فتنة الاختلاف ، فلما كان من الغد بويع أبو بكر - رضي الله عنه - [ ص: 100 ] البيعة العامة بعد البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة ، فجلس على المنبر ، فقام عمر فقال : أيها الناس إن الله عز وجل قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما هداه له ، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين إذ هما في الغار ، فقوموا فبايعوا ، فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة ، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف منكم قوي عندي حتى أدفع إليه حقه ، والقوي منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ، قوموا إلى صلاتكم ، رحمكم الله .

                                                                                                                                            ودعي سعد بن عبادة إلى البيعة فأبى ، فأراد عمر أن يعنف به ، فأشار بشير بن سعد بتركه ، فترك . وخرج من الغد فخطب الناس ، وقال بعد حمد الله والثناء عليه : أيها الناس ، إنما أنا مثلكم إني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيق ، وإن الله اصطفاه على العالمين ، وعصمه من الآفات ، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ، فإن استقمت فتابعوني ، وإن زغت فقوموني ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ، ألا وإن لي شيطانا يعتريني ، ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ فإذا أتاني فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا في عمل صالح فافعلوا [ ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله ] . وسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال الجد الجد ، الوحا الوحا ، النجا النجا ، فإن وراءكم طالبا حثيثا ، [ أجلا مره سريع ] . احذروا الموت ، واعتبروا بالآباء والأبناء والأخوات ، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات .

                                                                                                                                            اعتبروا عباد الله بمن مات منكم ، وتذكروا من كان قبلكم ، أين كانوا أمس ، وأين هم اليوم : هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ مريم : 98 ] 0 ألا إن الله أبقى عليهم التبعات ، وقطع عنهم الشهوات ، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم ، وبقينا خلفا بعدهم ، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا ، وإن اغتررنا كنا مثلهم ، وإن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا أو يصرف عنه به شرا إلا بطاعته واتباع أمره .

                                                                                                                                            ثم جمع الأنصار وقال لهم : أنتم بعث أسامة ، فاستنظروه ؛ لأجل من ارتد من العرب ، فأبى وخرج إلى الجرف يشيعهم وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر ، فقال أسامة : يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لتركبن أو لأنزلن ، فقال : [ ص: 101 ] والله لا تنزل ، ووالله لا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة ، ثم قال : أيها الناس ، قفوا ، وأوصيكم بعشر فاحفظوها عني ، لا تخونوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا نخلا ولا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وستقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها الطعام ، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها ، وسوف تلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب ، فأخفقوهم بالسيف خفقا ، امضوا على بركة الله .

                                                                                                                                            وشرع في قتال أهل الردة ومن اتبع من تنبأ من مسيلمة والعنسي ، وطليحة ، وسجاح .

                                                                                                                                            فأما العنسي فقتل غيلة ، وكان ظهور أمره ثلاثة أشهر ، وقتل بعده مسيلمة ، وأسلم طليحة وأسلمت سجاح ، وحسن إسلامهما ، ونصر الله دينه ، وحقق صدق رسوله فيما أخبر به من إظهاره على الدين كله .

                                                                                                                                            هذا آخر ما نقل من سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أيام أبي بكر - رضي الله عنه - في غزواته وسراياه جملة وتفصيلا ، والله أعلم بصحة ذلك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية