الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ومن أسر منهم فإن أشكل بلوغهم فمن لم ينبت فحكمه حكم طفل ، ومن أنبت فهو بالغ ، والإمام في البالغين بالخيار بين أن يقتلهم بلا قطع يد [ ص: 173 ] ولا عضو ، أو يسلم أهل الأوثان ويؤدي الجزية أهل الكتاب ، أو يمن عليهم أو يفاديهم بمال أو بأسرى من المسلمين ، أو يسترقهم : فإن استرقهم أو أخذ منهم فسبيله سبيل الغنيمة : أسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بدر فقتل عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، ومن على أبي عزة الجمحي : على أن لا يقاتله ، فأخفره وقاتله يوم أحد : فدعا عليه أن لا يفلت ، فما أسر غيره ، ثم أسر ثمامة بن أثال الحنفي فمن عليه ، ثم أسلم وحسن إسلامه وفدى النبي - عليه السلام - رجلا من المسلمين برجلين من المشركين " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : الأسرى ضربان : ذرية ، ومقاتلة .

                                                                                                                                            فأما الذرية فهم النساء والصبيان ، فلا يجوز قتلهم لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والولدان ، ويسترقون على ما سيأتي حكمه ، وأما المقاتلة فهم الرجال ، وكل من بلغ من الذكور فهو رجل ، سواء اشتد وقاتل أم لا ؟ ويكون الإنبات فيهم بلوغا ، أو في حكم البلوغ ؟ على ما مضى من القولين لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم أن من جرت عليه المواسي قتل ، ومن لم تجر عليه استرق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة ، يعني سبع سماوات ، والإمام في رجالهم إذا أقاموا على شركهم مخير بين أربعة أحكام - يجتهد فيها رأيه - ليفعل أصلحها ، فيكون خيار نظر واجتهاد لا خيار شهوة وتحكم .

                                                                                                                                            وخياره في الأربعة بين أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال أو أسرى ، أو يمن بغير فداء ، وقال أبو يوسف : يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال أو أسرى ، وليس له أن يمن .

                                                                                                                                            وقال مالك : يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء : أن يقتل ، أو يسترق ، أو يفادى على مال ، ولا يجوز أن يفادى بأسرى ، ولا أن يمن .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يكون مخيرا بين شيئين : أن يقتل ، أو يسترق ، ولا يجوز أن يفادى ، ولا أن يمن ، فصار القتل والاسترقاق متفقا عليهما ، أما القتل فلقول الله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة : 5 ] . وقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر ، فقال يا محمد : من للصبية ، فقال : النار ، وقتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا .

                                                                                                                                            وأما الاسترقاق فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استرق سبي بني قريظة ، وبني المصطلق ، وهوازن يوم حنين .

                                                                                                                                            وأما الفداء والمن ، فاستدل أبو حنيفة على المنع منهما بقول الله تعالى في فداء أسرى بدر : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض [ ص: 174 ] الدنيا [ الأنفال : 67 ] يعني المال والله يريد الآخرة [ الأنفال : 67 ] . يعني العمل بما يفضي إلى ثواب الآخرة : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور فيهم أصحابه ، فأشار أبو بكر باستبقائهم وأخذ فدائهم لعل الله أن يهديهم ، وأشار عمر بقتلهم : لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله ، فعمل على قول أبي بكر ، وفادى كل أسير بأربعة آلاف درهم ، فأنكر الله تعالى على رسوله ما فعله من الفداء ، وقال : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] . وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : لولا كتاب من الله سبق لأنه سيحل المغانم لكم لمسكم فيما أخذتم من فداء الأسرى عذاب عظيم قاله ابن عباس .

                                                                                                                                            والثاني : لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحدا بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتم ، من الفداء عذاب عظيم قاله ابن إسحاق : قال : وإذا منع من الفداء كالمنع من المن أولى ، والدليل على جواز المن والفداء قول الله تعالى : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب [ محمد : 4 ] . وفيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ضرب رقابهم صبرا بعد القدرة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قتالهم المفضي إلى ضرب رقابهم في المعركة حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق يعني بالإثخان الجراح ، وبشد الوثاق الأسر ، ثم قال بعد الأسر : فإما منا بعد وإما فداء والمن العفو ، والفداء ما فودي به الأسير ، من مال أو أسير ، ثم قال : حتى تضع الحرب أوزارها فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أوزار الكفر بالإسلام .

                                                                                                                                            والثاني : أثقال السلاح بالظفر ، فورد بإباحة المن والفداء نص القرآن الذي لا يجوز دفعه ، ثم جاءت به السنة ، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من على ثمامة بن أثال بعد أن ربطه إلى سارية المسجد أسرا ، فمضى وأسلم في جماعة من قومه ، وحسن إسلامه ، ومن على أبي عزة الجمحي يوم بدر ، وشرط عليه أن لا يعود لقتاله ، فلما عاد إلى مكة قال : سخرت من محمد ، وعاد إلى قتاله في أحد ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفلت ، فما أسر يومئذ غيره ، فقال : امنن علي فقال : هيهات ، ترجع إلى قومك فتقول سخرت من محمد مرتين ، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وضرب عنقه وليس هذا القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق الخبر : لأن المؤمن قد يلدغ من جحر مرتين ، وإنما هو على طريق التحذير .

                                                                                                                                            ويدل على إباحة الفداء بالأسرى ، ما رواه عمران بن الحصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادى يوم بدر رجلا برجلين ، وعلى الفداء بالمال ما فادى به أسرى بدر .

                                                                                                                                            [ ص: 175 ] فإن قيل : فقد أنكره الله تعالى عليه فعنه جوابان : أحدهما : أنه أنكره عليه قبل ورود إباحته ، وقد وردت الإباحة فزال الإنكار .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قيد إنكاره بشرط ، وهو قوله : حتى يثخن في الأرض وفي إثخانه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كثرة القتل .

                                                                                                                                            والثاني : الاستيلاء والظفر ، وقد أنعم الله تعالى بهما ، فزال الإنكار وارتفع المنع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية