الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما الهجرة في زماننا فتختص بمن أسلم في دار الحرب في الهجرة منها إلى دار إسلام ، ولا تختص بدار الإمام .

                                                                                                                                            وحاله ينقسم فيها خمسة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقدر على الامتناع في دار الحرب بالاعتزال ، ويقدر على الدعاء والقتال فهذا يجب عليه أن يقيم في دار الحرب : لأنها صارت بإسلامه واعتزاله دار الإسلام ويجب عليه دعاء المشركين إلى الإسلام بما استطاع من نصرته بجدال أو قتال .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يقدر على الامتناع والاعتزال ولا يقدر على الدعاء والقتال ، فهذا يجب عليه أن يقيم ولا يهاجر : لأن داره قد صارت باعتزاله دار إسلام ، وإن هاجر عنها عادت دار حرب ، ولا يجب عليه الدعاء والقتال لعجزه عنها .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يقدر على الامتناع ولا يقدر على الاعتزال ولا على الدعاء والقتال ، فهذا لا يجب عليه المقام : لأنه لم تصر داره دار إسلام ، ولا تجب عليه الهجرة : لأنه يقدر على الامتناع ، وله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يرجو ظهور الإسلام بمقامه ، فالأولى به أن يقيم ولا يهاجر .

                                                                                                                                            والثاني : أن يرجو نصرة المسلمين بهجرته فالأولى به أن يهاجر ولا يقيم .

                                                                                                                                            والثالث : أن تتساوى أحواله في المقام والهجرة ، فهو بالخيار بين المقام والهجرة .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن لا يقدر على الامتناع ويقدر على الهجرة ، فواجب عليه أن يهاجر وهو عاص إن أقام ، وفي مثله قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل : ولم يا رسول الله ، قال : لا تراءى ناراهما ، ومعناه : لا يتفق رأياهما ، فعبر عن الرأي بالنار : لأن الإنسان يستضيء بالرأي كما يستضيء بالنار .

                                                                                                                                            [ ص: 105 ] ومثله ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تستضيئوا بنار أهل الشرك أي : لا تقتدوا بآرائهم .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : أن لا يقدر على الامتناع ويضعف عن الهجرة فتسقط عنه الهجرة : لعجزه ، ويجوز أن يدفع عن نفسه بإظهار الكفر ، ويكون مسلما باعتقاد الإسلام والتزام أحكامه ، ولا يجوز لمن قدر على الهجرة أن يتظاهر بالكفر لأنه غير مضطر والعاجز عن الهجرة مضطر ، ويكون فرض الهجرة على من آمن فيها باقيا ما بقي للشرك دار .

                                                                                                                                            روى معاوية بن أبي سفيان قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم فتح مكة : لا هجرة بعد اليوم ولكن جهاد ونية .

                                                                                                                                            قيل : في تأويله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا هجرة من مكة بعد اليوم : لأنها قد صارت بعد الفتح دار إسلام .

                                                                                                                                            الثاني : لا فضيلة للهجرة بعد اليوم كفضيلتها قبل اليوم : لأنها كانت قبل الفتح أشق منها بعده فكان فضلها أكثر من فضلها بعده .

                                                                                                                                            وفي تسميتها " هجرة " وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لأنه يهجر فيها ما ألف من وطن وأهل .

                                                                                                                                            والثاني : لأنه يهجر فيها العادة من عمل أو كسب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية