وسار إلى الطائف لقتال من بها من ثقيف ، ومن انضم إليهم من هوازن فأغلقوا حصنهم ، وقاتلوا فيه ، ولم يخرجوا منه ، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوما ، وقيل : ثمانية عشر يوما ، ونادى في حصارها : ، فخرج منهم بضعة عشر رجلا منهم أيما عبد خرج إلينا فهو حر أبو بكرة ، فنزل من الحصن في بكرة فقيل له : أبو بكرة ، فأعتقهم ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين بمؤنته : فشق ذلك على أهل الطائف ، وناشدوه بالرحم أن ينصرف عنهم بعد أن أخذ في قطع كرومهم ، وعلم أنه لم يؤذن له فيهم ، فأزمع على الرجوع ، وكان قال لأبي بكر : " رأيت أنه أهديت إلي قعبة مملوءة زبدا ، فنقرها ديك ، فأهراق ما فيها " ، فقال أبو بكر : ما أظنك تدرك منهم في وقتك هذا ما تريد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أقول ، فاستشار فيهم نوفل بن معاوية ، فقال : يا رسول الله ، هم ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرك ، فرجع عنهم بعد أن نصب عليهم منجنيقا ، وقطع عليهم كروما ليقسم ما [ ص: 74 ] بالجعرانة من غنائم هوازن ، فقدم الجعرانة يوم الخميس من ذي القعدة وقدمت عليه وفود هوازن وقد أسلموا ، وفيهم أبو مبرد زهير بن صرد ، فقال : إنما في الحظائر عماتك وخالاتك : لأنه قد كان رضيعا فيهم : لأنه - صلى الله عليه وسلم - ارتضع من لبن حليمة ، وكانت من هوازن . ولو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر أي : أرضعنا ثم نزلنا منه منزلك منا لرعى ذاك ، وأنت خير الكفيلين ، وأنشأ يقول :
امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر إن لم تداركهم نعماء ننثرها
يا أرجح الناس حلما حين يختبر إنا لنشكر آلاء وإن كفرت
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه
من أمهاتك إن العفو مشتهر إنا نؤمل عفوا منك تلبسه
هذي البرية إذ تعفو وتنتصر فاغفر عفا الله عما أنت واهبه
يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
[ ص: 75 ] ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قسمة الأموال ، فبدأ بإعطاء المؤلفة قلوبهم ، فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة بعير ، فقال : ابني معاوية فقال : أعطوه أربعين أوقية ومائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه ، وأعطى صفوان بن أمية مائة بعير ، وأعطى سهيل بن عمرو مائة بعير ، وأعطى حويطب بن عبد العزى مائة بعير ، وأعطى النضير بن الحارث بن كلدة مائة بعير ، وأعطى مالك بن عوف النضري مائة بعير ، وقد جاءه مسلما من الطائف ، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي مائة بعير ، وأعطى عيينة بن حصن مائة بعير ، وأعطى الأقرع بن حابس مائة بعير ، فهؤلاء أصحاب المائة .
وأعطى غيرهم دونهم : وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا ، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين بعيرا ، وأعطى عمير بن وهب خمسين بعيرا ، وأعطى هشام بن عمرو الثقفي خمسين بعيرا ، وأعطى العباس بن مرداس أباعر ، فسخطها واستعتب بشعر فقال :
كانت نهابا تلافيتها بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرء فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداسا في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
واختلف فيما أعطاه المؤلفة ، فقال قوم : كان من أصل الغنيمة .
وقال آخرون ، وهو أثبت : إنه كان من الخمس ، ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ، وفضها عليهم ، فكان سهم كل رجل منهم أربعة من الإبل وأربعين شاة ، وكان سهم كل فارس اثني عشر بعيرا ، ومائة وعشرين شاة ، ومن كان معه أكثر من فرس لم يسهم له .
ولما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤلفة وقبائل العرب ما أعطاهم ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوه في نفوسهم ، فدخل سعد بن عبادة ، الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء : أعطيت غيرهم [ ص: 76 ] وحرمتهم ، قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ، قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي قال : فاجمع لي قومك ، فلما اجتمعوا خطبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتني عنكم ، وموجدة وجدتموها في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : لله ولرسوله المن والفضل ، فقال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ، أما والله ، لو شئتم لقلتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك ، يا معشر الأنصار وجدتم في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلي إسلامكم : أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار ، والأنصار شعار والناس دثار ، ولو سلك الناس شعبا والأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار ، فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم ، وقالوا : رضينا بالله قسما وحظا وتفرقوا . فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحي من
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ثلاثة عشر يوما ، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء ، الثامن عشر من ذي القعدة ليلا ، فأحرم بعمرة ، ودخل مكة فطاف وسعى وحلق رأسه ، ورجع إلى الجعرانة من ليلته ، ثم غدا يوم الخميس راجعا إلى المدينة .
وفي هذه السنة أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجوس هجر ، وفيها الجزية من فاطمة بنت الضحاك بن سفيان ، وخيرها مع نسائه فاستعاذت منه ، فاختارت الدنيا ففارقها . تزوج
وفي ذي الحجة من هذه السنة مارية إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغار نساؤه ، واشتد عليهن حين رزقت منه الولد ، فبشره ولدت أبو رافع به فوهب له مملوكا .
أبا بكر رضي الله عنه ، وأمره أن يؤم الناس كلهم ، وسميت هذه السنة عام الفتح لأن أعظم ما كان فيها فتح واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج في هذه السنة مكة ، فكان فيها غزوتان وثلاث عشرة سرية .