مسألة : قال الشافعي : " وبإذن أبويه لشفقتهما ورقتهما عليه إذا كانا مسلمين ، وإن كانا على غير دينه ، فإنما يجاهد أهل دينهما : فلا طاعة لهما عليه قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهد عبد الله بن عبد الله بن أبي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوه متخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " بأحد " يخذل من أطاعه " .
قال الماوردي : وهذا صحيح ، لم يكن له أن يجاهد إلا بإذنهما لقول الله تعالى : إذا كان للمجاهد أبوان مسلمان وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ الإسراء : 23 ] . فجمع بين طاعته وطاعة الوالدين ، ثم قال : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف [ الإسراء : 23 ] . يعني : حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما القذى ، فلا تضجر كما كانا يميطانه عنه صغيرا من غير ضجر ، وفي هذا الأف تأويلان :
أحدهما : أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح ، قاله مقاتل .
والثاني : أنها كلمة تدل على التبرم والضجر ، خرجت مخرج الأصوات المحكية ، والعرب تقول : أف وتف ، والأف في اللغة وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار .
ولا تنهرهما [ الإسراء : 23 ] . فيه تأويلان :
أحدهما : لا ترد عليهما قولا .
والثاني : لا تنكر منهما فعلا .
وقل لهما قولا كريما فيه تأويلان :
أحدهما : لينا .
والثاني : حسنا .
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة [ الإسراء : 124 ] . فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الخضوع لهما .
والثاني : ترك الاستعلاء عليهما ، مأخوذ من علو الطائر بجناحه ، والمراد بالرحمة الحنو والشفقة ، فدل عموم ما أمر به من طاعتهما على أن يرجع في الجهاد إليهما .
[ ص: 123 ] ثم من نص السنة ما رواه أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فقال : " باليمن أحد ؟ قال : نعم : أبواي قال : " استأذنتهما ؟ فإن أذناك فجاهد وإلا فبرهما . قد هجرت الشرك ، وبقيت هجرة الجهاد ، فهل لك
وروى حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو قال : . جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد
وروى عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : . جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : جئت أبايعك ، وتركت أبوي يبكيان فقال : ارجع إليهما ، فأضحكهما كما أبكيتهما وأبى أن يبايعه
وروي أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله : أبايعك على الجهاد فقال : هل لك من بعل ؟ قال : نعم ، قال : فانطلق فجاهد ، فإن لك فيه مجاهدا حثيثا ، يريد بالبعل من تلزمه طاعته من والد أو والدة مأخوذ من قولهم : بعل الدار ، أي مالكها ، ومنه سمي الزوج بعلا .
ولأن فرض الجهاد على الكفاية وطاعة الأبوين من فروض الأعيان : فكان أوكد ، فأما : لأنهما يمنعانه تدينا ، وقد جاهد إن كان أبواه مملوكين لم يلزمه استئذانهما أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوه ، عتبة يقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر حتى قتل ، وكان سيد المشركين .
وقاتل عبد الله بن عبد الله بن أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأبوه عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين يخذل الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصدهم عن اتباعه ، ويقول : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا .
وقيل : إن القائل لهذا قشير بن معتب فدل على أنه لا اعتبار بإذن من أشرك أو نافق لأن النفاق هو الشرك الخفي .