مسألة : قال
الشافعي : " في كتاب السير ما يدل على أنه لا
nindex.php?page=treesubj&link=8850جزية على فقير حتى يستغني ، ( قال
المزني : ) والأول أصح عندي في أصله ، وأولى عندي بقوله " .
قال
الماوردي : وأما المقل الذي يملك قدر الجزية ولا يملك ما سواها ، فهي عليه واجبة ، لقدرته على أدائها ، فأما الفقير الذي لا يملك قدر الجزية ، فضربان :
[ ص: 301 ] أحدهما : أن يكون معتملا يكسب بعمله في السنة قدر جزيته فاضلة عن نفقته ، فالجزية عليه واجبة .
والضرب الثاني : أن يكون غير معتمل لا يقدر على الاكتساب إلا بالمسألة لقدر قوته من غير فضل ، ففي وجوب الجزية عليه قولان :
أحدهما : وهو المنصوص عليه في كتاب الجزية ، وعامة كتبه أنها واجبة عليه ، ولا تعقد له الذمة إلا بها ، وهو اختيار
المزني .
والقول الثاني : نص عليه في سير
الواقدي : أنه لا جزية عليه ، ويكون في عقد الذمة تبعا لأهل المسكنة ، كالنساء والعبيد ، وبه قال
أبو حنيفة ، احتجاجا بأن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طبق في الجزية
أهل العراق ثلاث طبقات ، جعل أدناها الفقير المعتمل ، فدل على سقوطها عن غير المعتمل ، ولأنه مال يجب في كل حول ، فلم تجب على الفقير كالزكاة ، ولأن الجزية ضربان على الرءوس والأرضين ، فلما سقطت عن الأرض إذا أعوز نفقتها ، سقطت عن الرءوس إذا أعوز وجودها .
والدليل على وجوبها على الفقير :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] . فلما كان قتالهم عاما في الموسر والمعسر : وجب أن يكون ما جعله غاية في الكف عن قتالهم من بذل الجزية عاما في الموسر والمعسر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925117لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل - حين بعثه إلى اليمن : خذ من كل حالم دينارا ، وقد علم أن فيهم فقيرا ، ولم يميزهم ، فدل على أخذها منهم .
فإن قيل : فالأمر بالأخذ في الكتاب والسنة مشروط بالقدرة ، ويسقط التكليف فيما خرج من القدرة .
قيل : هذا الأمر إنما توجه إلى الضمان دون الدفع : لأنه في ابتداء الحول ، والدفع يكون بعد الحول ، وقد يتوجه الضمان إلى المعسر ليدفعه إذا أيسر كسائر الحقوق .
ومن القياس أنه حر مكلف ، فلم يجز إقراره على كفره في دار الإسلام بغير جزية كالموسر ، وفيه احتراز من المرأة : لأنها تدخل في اللفظ المذكر ، ولأن كل من حل قتله بالأسر لم تسقط عنه الجزية بالفقر كالغني إذا افتقر ، ولأنه أحد سببي ما يحقن به الدم ، فوجب أن يقوى فيه الغني والفقير كالإسلام ، ولأن
nindex.php?page=treesubj&link=8761الجزية في مقابلة أمرين :
أحدهما : حقن الدم .
والآخر : الإقرار في دارنا على الكفر .
[ ص: 302 ] وما حقن به الدم لم يسقط بالإعسار ، كالدية .
وما استحق به المقام في مكان لم يسقط بالإعسار كالأجرة .
فأما الجواب عن فعل
عمر - رضي الله عنه - فمن وجهين :
أحدهما : أن أخذها من الفقير المعتمل لا يوجب سقوطها عن غير المعتمل .
والثاني : أن المعتمل هو المكتسب بالعمل - وغير المعتمل قد يتكسب بالمسألة ، وهي عمل فصار كالمعتمل . والقياس على الزكاة فاسد من وجهين :
أحدهما : أن الزكاة تجب في المال ، فاعتبرناه في الوجوب ، والجزية تجب في الذمة ، فلم يعتبر المال في الوجوب .
والثاني : أن الجزية تجب على الفقير المعتمل ، ولا تجب عليه الزكاة ، فلم يجز اعتبارها بالزكاة .
وأما الجواب عن الجمع بين الجزية والخراج مع اختلاله من وجهين :
أحدهما : أن الخراج لا يسقط بالفقر ، فكذلك الجزية .
والثاني : أنه لما لم يسقط ما في مقابلة الجزية من حقن الدم في حق الفقير لم تسقط الجزية ، ولما سقط ما قي مقابلة الخراج من المنفعة سقط به الخراج .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ : " فِي كِتَابِ السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا
nindex.php?page=treesubj&link=8850جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ ، ( قَالَ
الْمُزَنِيُّ : ) وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْدِي فِي أَصْلِهِ ، وَأَوْلَى عِنْدِي بِقَوْلِهِ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَأَمَّا الْمُقِلُّ الَّذِي يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ وَلَا يَمْلِكُ مَا سِوَاهَا ، فَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا ، فَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ ، فَضَرْبَانِ :
[ ص: 301 ] أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُعْتَمِلًا يَكْسِبُ بِعَمَلِهِ فِي السُّنَّةِ قَدْرَ جِزْيَتِهِ فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَتِهِ ، فَالْجِزْيَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ إِلَّا بِالْمَسْأَلَةِ لِقَدْرِ قُوتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ ، فَفِي وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ ، وَعَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ الذِّمَّةُ إِلَّا بِهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْمُزَنِيِّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : نُصَّ عَلَيْهِ فِي سِيَرِ
الْوَاقِدِيِّ : أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ تَبَعًا لِأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ ، كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ طَبَّقَ فِي الْجِزْيَةِ
أَهْلَ الْعِرَاقِ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ، جَعَلَ أَدْنَاهَا الْفَقِيرَ الْمُعْتَمِلَ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِي كُلِّ حَوْلٍ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْأَرَضِينَ ، فَلَمَّا سَقَطَتْ عَنِ الْأَرْضِ إِذَا أَعْوَزَ نَفَقَتَهَا ، سَقَطَتْ عَنِ الرُّءُوسِ إِذَا أَعْوَزَ وُجُودُهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . فَلَمَّا كَانَ قِتَالُهُمْ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ : وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً فِي الْكَفِّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ عَامًّا فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925117لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ فَقِيرًا ، وَلَمْ يُمَيِّزْهُمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْأَمْرُ بِالْأَخْذِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ ، وَيَسْقُطُ التَّكْلِيفُ فِيمَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ .
قِيلَ : هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الضَّمَانِ دُونَ الدَّفْعِ : لِأَنَّهُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ ، وَالدَّفْعُ يَكُونُ بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَقَدْ يَتَوَجَّهُ الضَّمَانُ إِلَى الْمُعْسِرِ لِيَدْفَعَهُ إِذَا أَيْسَرَ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ كَالْمُوسِرِ ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنَ الْمَرْأَةِ : لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ الْمُذَكِّرِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّ قَتْلُهُ بِالْأَسْرِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِالْفَقْرِ كَالْغَنِيِّ إِذَا افْتَقَرَ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيْ مَا يُحْقَنُ بِهِ الدَّمُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَالْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=8761الْجِزْيَةَ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : حَقْنُ الدَّمِ .
وَالْآخَرُ : الْإِقْرَارُ فِي دَارِنَا عَلَى الْكُفْرِ .
[ ص: 302 ] وَمَا حُقِنَ بِهِ الدَّمُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ ، كَالدِّيَةِ .
وَمَا اسْتَحَقَّ بِهِ الْمُقَامُ فِي مَكَانٍ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ كَالْأُجْرَةِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فِعْلِ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُعْتَمِلَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ بِالْعَمَلِ - وَغَيْرُ الْمُعْتَمِلِ قَدْ يَتَكَسَّبُ بِالْمَسْأَلَةِ ، وَهِيَ عَمَلٌ فَصَارَ كَالْمُعْتَمِلِ . وَالْقِيَاسُ عَلَى الزَّكَاةِ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَالِ ، فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْوُجُوبِ ، وَالْجِزْيَةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يُعْتَبَرِ الْمَالُ فِي الْوُجُوبِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا بِالزَّكَاةِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مَعَ اخْتِلَالِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَسْقُطُ بِالْفَقْرِ ، فَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِزْيَةِ مِنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ لَمْ تَسْقُطِ الْجِزْيَةُ ، وَلَمَّا سَقَطَ مَا قِي مُقَابَلَةِ الْخَرَاجِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ بِهِ الْخَرَاجُ .