الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف لا يدخلها فانهدمت حتى صارت طريقا لم يحنث لأنها ليست بدار " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح إذا حلف ، لا يدخل هذه الدار ، فانهدمت وصارت عراصا ، فدخلها لم يحنث ، وهكذا لو حلف لا يدخل هذا البيت فانهدم ، وصار براحا لم يحنث .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إذا دخل عرصة الدار بعد انهدامها حنث ، وإذا دخل عرصة البيت بعد انهدامه ، لم يحنث فوافق في البيت ، وخالف في الدار ، إلا أن يبني مسجدا أو حماما ، أو يجعل بستانا ، استدلالا بأن اسم الدار ينطلق على العرصة بعد ذهاب العمارة ، كما ينطلق عليها مع العمارة كما يقولون هذه ديار عاد ، وديار ثمود ، وديار ربيعة ، وديار مضر ، وإن ذهبت عمارتها ، وبقيت عراصها ، وهو واضح في أشعار العرب قال النابغة :


                                                                                                                                            يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد

                                                                                                                                            وقال لبيد :


                                                                                                                                            عفت الديار محلها فمقامها     بمنى تأبد غولها فرجامها

                                                                                                                                            فسماها دارا بعد إقواتها والعفا : الدرس ، فسماها ديارا بعد دروسها ، فكان بقاء الاسم على عرصتها موجبا ، لوقوع الحنث بدخولها ؛ ولأنه لو انهدم من سورها ، فأدخل منه إلى عرصة ضمنها حنث ، وإن لم يدخل في بناء ، ولا صار في عمارة فكذلك ، إذا انهدم جميع بنائها حنث بدخول عرصتها .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن ما تناوله الاسم مع البناء زال عنه حكم الحنث بذهاب البناء ، كالبيت ، فإن قيل : البيت لا يسمى بعد انهدامه بيتا ، وتسمى الدار بعد انهدامها دارا بطل بقول الله تعالى : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] ، فسماها بعد الخراب بيوتا ؛ ولأن ما منع من الحنث بدخول عرصة البيت ، منع منه بدخول عرصة الدار ، كما لو بنى العرصة مسجدا ؛ ولأن أبا حنيفة قد وافقنا ، أنه لو حلف لا يدخل دارا ، ولم يعينها ، فدخل عرصة دار قد انهدم بناؤها لم يحنث كذلك إذا عينها .

                                                                                                                                            [ ص: 357 ] وتحريره أن كل ما لا يتناوله الاسم الحقيقي ، مع عدم التعيين ، لم يتناوله مع وجود ، التعيين كالبيت .

                                                                                                                                            فإن قيل : قد فرق الشرع في الأيمان بين التعيين والإبهام ؛ لأنه لو حلف ، فقال : لا جلست في سراج فجلس في الشمس لم يحنث ، وإن سماها الله تعالى سراجا ، ولو عين فقال : لا جلست في هذا السراج إشارة إلى الشمس حنث بجلوسه فيها ، ولو حلف لا جلست على بساط ، فجلس على الأرض لم يحنث ، وإن سماها الله تعالى بساطا ، ولو عين ، فقال : لا جلست على هذا البساط مشيرا إلى الأرض ، فجلس عليها حنث ، فصارت الشمس سراجا مع التعيين ، وإن لم تكن سراجا مع الإبهام ، وصارت الأرض بساطا مع التعيين ، وإن لم تكن بساطا مع الإبهام ، كذلك وجب أن تكون العرصة دارا مع التعيين ، وإن لم تكن دارا مع الإبهام . قلنا : ليس يفترق التعيين ، والإبهام في حقائق الأسماء ، فإن اسم السراج ينطلق على الشمس مجازا في الإبهام ، والتعيين ، واسم البساط ينطلق على الأرض مجازا في الإبهام ، والتعيين ، وإنما جعل التعيين مقصودا والاسم مستعارا ، فإذا أبهم الاسم اعتبر فيه الحقيقة ، دون المجاز المستعار والتعيين في الدار توجه إلى شيئين جمعهما حقيقة الاسم وهي العرصة والبناء ، فإذا ذهب البناء زال شطر العين ، فارتفع حقيقة الاسم ولأن الإبهام إذا حلف لا دخلت دارا ، أعم من التعيين ، إذا حلف لا دخلت هذه الدار ؛ لأنه يحنث في الإبهام بدخول دار ، ولا يحنث في التعيين ، إلا بدخول تلك الدار فلما ارتفع بالهدم حكم الأعم ، كان أولى أن يرتفع به حكم الأخص . فأما الجواب عن قولهم بأن اسم الدار ينطلق عليها بعد انهدامها هو أن الاسم ينطلق عليها بعد الهدم على أحد وجهين :

                                                                                                                                            إما على الاستعارة والمجاز ، والأيمان تراعى فيها حقائق الأسماء دون مجازها ، وإما لأنها كانت دارا فاستصحب اسمها اتساعا ، والأسماء في الأيمان معتبرة ، بالحال دون ما سلف ، كما لو حلف لا كلمت عبدا فكلمه معتقا ، ثم يقال لأبي حنيفة هذا الاستدلال ، والتعيين يفسد بالإطلاق في الإبهام وأما استدلاله بدخوله إلى صحنها من هدم في سورها ، فسنشرح من مذهبنا فيه ما يكون انفصالا عنه ، وهو أنه ليس يخلو حال ما انهدم منها ، وبقي من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن لا يمنع من سكنى شيء منها ، فيحنث بدخوله من المستهدم والعامر .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يمنع بالهدم من سكنى الباقي ، وسكنى المستهدم ، فلا يحنث بدخول ما بقي ، ولا بدخول ما انهدم .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يمنع الهدم من سكنى ما استهدم ، ولا يمنع من سكنى ما بقي على عمارته ، ولم يستهدم فلا يحنث بدخول المستهدم منها ، ويحنث بدخول الباقي [ ص: 358 ] من عامرها ، ولو انهدمت بيوتها ، وبقي سورها ، فإن كان السور مانعا لعلوه حنث بدخوله ، وإن كان غير مانع لقصره فالصحيح أنه لا يحنث بدخوله ، وخرج بعض أصحابنا وجها آخر فمن حلف لا يدخل الدار ، ورقي على سطحها أنه يحنث ، إذا كانت عليه سترة وليس هذا التحريم صحيحا ؛ لأن السطح ممتنع بسكنى أسفله ، فجاز أن يكون قصر سترته مانعا فخالف الباقي من سترة الدار .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية