الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 229 ] مسألة: في حكم صوم الدهر [ ص: 230 ] * وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام الدهر فكأنه لا صام ولا أفطر»، هل هو لانتفاء المشقة، أو لا ثواب ولا عقاب؟

* فأجاب: الحمد لله. هذا مبني على أصل، وهو أن صوم الدهر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو سرد الصوم وإن أفطر أيام النهي الخمسة: يومي العيدين وأيام منى، أو هو الصوم المشتمل على صيام الأيام الخمسة؟ على قولين مشهورين للعلماء:

* منهم من قال: إنما كره صوم الدهر لصوم الأيام الخمسة. قالوا: فإذا أفطرهن لم يكن بذلك بأس.

وهذا قول كثير من الفقهاء والعباد، حتى إنه يروى ذلك عن مالك، والشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم.

ومن هؤلاء من قال: إن سرد الصوم أفضل من صوم يوم وفطر يوم. وروى بعضهم هذا عن الشافعي.

* والقول الثاني: أن من سرد الصوم دائما فقد صام الدهر، وإن أفطر الأيام الخمسة. [ ص: 232 ]

وهذا قول طوائف -أيضا- من أهل العلم، وهو الصواب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قصده مجرد صوم الخمسة لم يذكر الصوم المشتمل على أكثر من ثلاثمئة وخمسين يوما ويريد به كراهة صوم خمسة فقط; فإن اللفظ لا يحتمل هذا لا حقيقة ولا مجازا.

ولأن تلك الخمسة نهي عن صومها لمعنى يخصها، سواء صام غيرها أو أفطره; فلو صامها شخص وأفطر ما سواها نهي عن ذلك وإن لم يصم الدهر، ولو أفطرها لم ينه على هذا التقدير وإن صام سائر الدهر; فعلم أن صوم سائر الدهر لا تأثير له في المنع.

وأيضا، فإن هذه حرم صومها لكونها أيام العيد، ولم يقل في من صامها: «لا صام ولا أفطر»، وصوم الدهر قال فيه: «لا صام ولا أفطر».

وأيضا، فإن هذه قرنها بقيام الليل كله، وبقراءة القرآن على ثلاث، وقرنها بصيام ثلثي الزمان وثلثه وشطره; فعلم أنه أراد استيعاب الزمان بالصيام، لا صوم خمسة منه. وهذا ظاهر في حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي قتادة، ونحوهما.

وأما من استحب صوم الدهر على أفضل الصيام صيام داود، فهو مقابلة لصريح السنة بالرأي; فلا يلتفت إليه.

وعلى هذا التقرير، فصوم الدهر هل هو ترك الأولى أو هو مكروه ينهى [ ص: 233 ] عنه؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد وغيره.

* فمن قال بالأول قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ولكن قال: من فعله فلا صام ولا أفطر.

وهذا يقتضي أن من فعله لا يحصل له فائدة الصوم; لاعتياده له، ولا هو أيضا مفطر يلتذ التذاذ المفطرين.

وهذا يقتضي أنه لم ينتفع بذلك في دينه ولا دنياه، وعدم الانتفاع يقتضي أن يكون تركه أولى.

وقد جاء في حديث في «المسند»: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم» ; لأنه بسرد الصوم أغلق عنه أبواب النار.

* والوجه الثاني: كراهة ذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك عبد الله بن عمرو، وقال: «إذا فعلت ذلك هجمت له العين» أي: غارت، «ونفهت له النفس» أي: سئمت، وقال: «إن لنفسك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، [ ص: 234 ] ولزورك عليك حقا; فآت كل ذي حق حقه».

فبين صلى الله عليه وسلم أن ذلك يوجب ذلك، أو يفوت حقا واجبا، ومثل ذلك نهي عنه، والأعمال المشروعة لا بد أن تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها.

وعلى هذا، فقد يقال: صوم الدهر في حق بعض الناس يكون حراما، وهو من ترك به واجبا، أو وقع به في محرم من ضرر النفس.

وفي حق بعضهم مكروها، وهو من أوقعه في أفعال مكروهة، أو أوجب أن يفعل المأمور على وجه مكروه، مثل أن يسيء خلقه حتى يخاف عليه سوء العشرة لأهله، وأن يصلي صلاة مكروهة، ونحو ذلك.

وقد يكون في حق بعض الناس لا له ولا عليه، وهو الذي «لا صام ولا أفطر»، فلم يترك به واجبا ولا مستحبا، ولا فعل لأجله محرما ولا مكروها. وهذا الذي يقال في حقه: «لا ثواب ولا عقاب».

والذين فعلوه من السلف قد يثابون على حسن قصدهم واجتهادهم، وإن كانوا أخطأوا المشروع.

أو لم يكونوا يسردونه دائما، ولكن فعلوا ذلك أحيانا.

أو يقال: انتفعوا به في ترك الآثام، وإن كانوا لم ينتفعوا به في حصول الحسنات، بحيث لو أفطروا لأذنبوا; فإذا صاموا الدهر كانوا بحيث لم يذنبوا ولم يحسنوا. والسلامة أحد المطلوبين. [ ص: 235 ]

وعلى هذا فيقال: النهي عن صومه لم يرد عاما، وإنما ورد في حق عبد الله بن عمرو ونحوه، وإنما قيل في العموم: «لا صام ولا أفطر».

وأما قول السائل: هل ذلك لانتفاء المشقة أو لانتفاء الثواب والعقاب؟ فيقال له: بل لانتفاء فائدة الصوم ومقصوده، وانتفاء الثواب تابع لانتفاء المقصود; فإن العمل الذي لم يحصل مقصوده ينتفي ثوابه، كقوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، وجاء: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش».

مع أن هذا يدفع عنه بالصوم العقاب، فلو لم يصم لعوقب، ولو صام صوم المتقين لحصل له الثواب. فإذا صام صوم الفجار اندفع عنه العقاب، ولم يحصل له ثواب; لمقابلة ما عمله من الشر فيه بما عمله من الخير.

وصائم الدهر جعل نهاره ليلا، واعتادت النفس ذلك، فلم تحصل له بالصوم التقوى التي هي مقصود الصوم، كما قال: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 183]، والله أعلم.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية