الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 48 ] ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن البراء : لما نزل صوم رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فنزلت ، وقيل : كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة ، وأن عمر ، وكعبا الأنصاري ، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر ، وأصبح صائما فغشي عليه عند انتصاف النهار ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت . وقال بعض العلماء : نزلت الآية في زلة بدرت ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة ، هذا من إحكام العناية .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه : كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا ، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة ، وفي العدد ، وفي الشرائط ، وسائر تكاليف الصوم . وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل ، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا ، وقيل : بعد العشاء ، وكان المسلمون كذلك ، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول ، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر : لطفا بهم . وناسب أيضا قوله تعالى في آخر آية الصوم : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وهذا من التيسير .

وقوله " أحل " يقتضي أنه كان حراما قبل ذلك ، وقد تقدم نقل ذلك في سبب النزول ، لكنه لم يكن حراما في جميع الليلة ، ألا ترى أن ذلك كان حلالا لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء ؟ وقرأ الجمهور " أحل " مبنيا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وقرئ " أحل " مبنيا للفاعل ، ونصب " الرفث " به ، فإما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه ، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله ، وإما أن يكون من باب الالتفات ، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب : لأن قبله : ( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ) و " لكم " متعلق بأحل ، وهو التفات : لأن قبله ضمير غائب ، وانتصاب " ليلة " على الظرف ، ولا يراد بـ " ليلة " الوحدة بل الجنس ، قالوا : والناصب لهذا الظرف " أحل " وليس بشيء : لأن " ليلة " ليس بظرف لأحل ، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث ، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب " ليلة " بالرفث : لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا ، فلا يتقدم معموله ، لكن يقدر له ناصب ، وتقديره : الرفث ليلة الصيام ، فحذف ، وجعل المذكور مبنيا له كما قالوا في قوله :


وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان



إن تقديره : إذعان للذلة إذعان ، وكما خرجوا قوله : ( إني لكما لمن الناصحين ) ، و ( إني لعملكم من القالين ) أي ناصح لكما ، وقال " لعملكم " فما كان من الموصول قدم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول ، وقد تقدم أن من النحويين من يجيز تقدم الظرف على نحو هذا المصدر ، وأضيفت الليلة إلى الصيام على سبيل الاتساع : لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلا بصوم جزء منها ، صحت الإضافة . وقرأ الجمهور " الرفث " وقرأ عبد الله " الرفوث " وكنى به هنا عن الجماع ، والرفث قالوا : هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ : النيك ، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجينا لما وجد منهم ، إذ كان ذلك حراما عليهم ، فوقعوا فيه ، كما قال فيه : ( تختانون أنفسكم ) ، فجعل ذلك خيانة ، وعدي بإلى ، وإن كان أصله التعدية بالباء : لتضمينه معنى الإفضاء ، وحسن اللفظ به هذا التضمين ، فصار ذلك قريبا من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله : ( فلما تغشاها ) ، ( ولا تقربوهن ) ، ( فأتوا حرثكم ) ، ( فالآن باشروهن ) .

والنساء جمع الجمع ، وهو نسوة ، أو جمع امرأة على غير اللفظ ، وأضاف النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص ، إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختصت [ ص: 49 ] بالمفضي : إما بتزويج أو ملك .

( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ، اللباس ، أصله في الثوب ، ثم يستعمل في المرأة . قال أبو عبيدة : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك ، وإزارك لما بينهما من الممازجة . ولما كانا يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق شبه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان . قال الربيع : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن ، وقال مجاهد ، والسدي : هن سكن لكم ، أي : يسكن بعضكم إلى بعض ، كقوله : ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا ) ، وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال ، وهو عدم الصبر عنهن لكونهن لكم في المخالطة كاللباس ، وقدم " هن لباس لكم " على قوله " وأنتم لباس لهن " : لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها ، والرجل هو البادئ بطلب ذلك الفعل ، ولا تكاد المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن ، حتى أن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل .

جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان : الطباق المعنوي ، بقوله : ( أحل لكم ) ، فإنه يقتضي تحريما سابقا ، فكأنه أحل لكم ما حرم عليكم ، أو ما حرم على من قبلكم ، والكناية بقوله " الرفث " وهو كناية عن الجماع ، والاستعارة البديعة بقوله : " هن لباس لكم " ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر ، تقول : لابست ملابسة ولباسا .

التالي السابق


الخدمات العلمية