الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) . قال مقاتل : نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي ، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أرض ، وكان امرؤ القيس المطلوب ، وعدان الطالب ، فأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت ، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام ، فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائما له ، ممنوعا من اللذة الكبرى بالليل والنهار ، جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب ، ويزيده بصيرة ، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة ، فلذلك نهي عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه ، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي ، وسؤال العباد الله تعالى ، وقد جاء في الحديث : أن من كان مطعمه حراما ، وملبسه حراما ، ومشربه حراما ، ثم سأل الله أنى يستجاب له . فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام .

ويجوز أن تكون المناسبة : أنه لما أوجب عليهم الصوم ، كما أوجبه على من كان من قبلهم ، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم ، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا ، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل ، كما قال تعالى : ( ويشترون به ثمنا قليلا ) ، ( ليس علينا في الأميين سبيل ) ، ( أكالون للسحت ) ، وأن يكونوا مخالفيهم قولا وفعلا ، وصوما وفطرا ، وكسبا ، واعتقادا ، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور : " خالفوا اليهود " ، وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض ، إذ نزل ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) لاعتزال اليهود ، بأن لا يؤاكلوهن ، ولا يناموا معهن في بيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " افعلوا كل شيء إلا النكاح " . فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه .

والمفهوم من قوله تعالى : " ولا تأكلوا " الأكل المعروف : لأنه الحقيقة . وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء : لأنه أهم الحوائج ، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال . ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء ، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين ، وإضافة الأموال إلى المخاطبين . والمعنى : ولا يأكل بعضكم مال بعض ، كقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحته أن يكون منهيا ومنهيا عنه ، وآكلا ومأكولا منه ، فخلط الضمير لهذه الصلاحية ، وكما يحرم أن يؤكل يحرم أن يأكل غيره ، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة ، بل هي من باب الإضافة بالملابسة . وأجاز قوم الإضافة للمالكين ، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب ، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم ، لقوله : تريدونها بينكم [ ص: 56 ] بالباطل : وقال الزجاج بالظلم ، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغصب ، والنهب ، والقمار ، وحلوان الكاهن ، والخيانة ، والرشاء ، وما يأخذه المنجمون ، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع . وقال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه ، فيجحد المال ويخاصم صاحبه ، وهو يعلم أنه آثم : وقال عكرمة : هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها دراهم ، وقال ابن عباس أيضا : هو أخذ المال بشهادة الزور . قال ابن عطية : ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع : لأن الغبن كأنه وهبه ، انتهى . وهو صحيح .

والناصب للظرف " تأكلوا " والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ، ثم بين المعاني . وفي قوله : " بينكم " يقع لما هم يتعاطونه من ذلك : لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض ، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين ، إذ لو كانت كذلك لما احتيج إلى هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك ، وقيل : انتصاب " بينكم " على الحال من " أموالكم " فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة بينكم ، وهو ضعيف ، والباء في " بالباطل " للسبب وهي تتعلق بـ " تأكلوا " وجوزوا أن تكون بالباطل ، حالا من الأموال ، وأن تكون حالا من الفاعل .

( وتدلوا بها إلى الحكام ) هو مجزوم بالعطف على النهي ، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وكذا هي في مصحف أبي ، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية . والظاهر أن الضمير في " بها " عائد على الأموال ، فنهوا عن أمرين ، أحدهما : أخذ المال بالباطل ، والثاني : صرفه لأخذه بالباطل ، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوبا على جواب النهي بإضمار أن ، وجوزه الزمخشري ، وحكى ابن عطية أنه قيل : " تدلوا " في موضع نصب على الظرف ، قال : وهذا مذهب كوفي ، أن معنى الظرف هو الناصب ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه " أن " مضمرة ، انتهى . ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فنقول به ، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي ، وتجويز الزمخشري ذلك هنا ، فتلك مسألة " لا تأكل السمك وتشرب اللبن " ، بالنصب . قال النحويون : إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين .

أحدهما : أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده ، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما : لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات ؟

والثاني : وهو أقوى ، أن قوله لتأكلوا علة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له : لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما ، بل إنما يترتب على وجود أحدهما ، وهو : الإدلاء بالأموال إلى الحكام . والإدلاء هنا قيل : معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام ، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم . إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكون المال أمانة ، كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدعى عليه ، والباء على هذا القول للسبب ، وقيل : معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها . قال ابن عطية : وهذا القول يترجح : لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم ، وهو الأقل ، وأيضا : فإن اللفظتين متناسبتان . تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة ، انتهى كلامه . وهو حسن .

وقيل : المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم : أدلى فلان بحجته ، قام بها ، وهو راجع لمعنى القول الأول ، والضمير في " بها " عائد على الأموال ، كما قررناه ، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور ، أي : لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام ، فيحتمل على هذا القول أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ، ويحتمل أن يكون [ ص: 57 ] الذين نهوا هم المشهود لهم ، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس ، بسبب شهادة أولئك الشهود .

( لتأكلوا فريقا ) أي : قطعة وطائفة ( من أموال الناس ) ، قيل : هي أموال الأيتام ، وقيل : هي الودائع . والأولى العموم ، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق ، و " من أموال الناس " في موضع الصفة ، أي : فريقا كائنا من أموال الناس . ( بالإثم ) متعلق بقوله : " لتأكلوا " وفسر بالحكم بشهادة الزور ، وقيل : بالرشوة ، وقيل : بالحلف الكاذب ، وقيل : بالصلح ، مع العلم بأن المقضي له ظالم ، والأحسن العموم ، فكل ما أخذ به المال ومآله إلى الإثم فهو إثم ، والأصل في الإثم التقصير في الأمر ، قال الشاعر :


جمالية تغتلي بالرداف إذا كذب الآثمات الهجيرا



أي : المقصرات ، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثما . والباء في " بالإثم " للسبب ، ويحتمل أن تكون للحال أي : متلبسين بالإثم ، وهو الذنب ، ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية ، أي : أنكم مبطلون آثمون ، وما أعد لكم من الجزاء على ذلك ، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها ، وخصوصا حقوق العباد . وفي الحديث : " فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فلا يأخذ منه شيئا ، فإن ما أقضي له قطعة من نار " . وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم ، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه ، وهذا في الأموال باتفاق ، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور ، والمحكوم له يعلم بذلك . فقال أبو حنيفة : هو نافذ ، وهو كالإنشاء ، وإن كانوا شهود زور . وقال الجمهور : ينفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا .

وفي قوله : ( وأنتم تعلمون ) دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم ، وحكم له الحاكم بأخذ مال ، فإنه يجوز له أخذه ، كأن يلقى لأبيه دينا وأقام البينة على ذلك الدين ، فحكم له به الحاكم ، فيجوز له أخذه ، وإن كان لا يعلم صحة ذلك ، إذ من الجائز أن أباه وهبه ، أو أن المدين قضاه ، أو أنه مكره في الإقرار ، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه . والأصل عدم براءة المقر ، وعدم إكراهه ، فيجوز له أن يأخذه .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريبا لهم ، وتحريكا لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام ، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسيا في هذا التكليف الشاق بمن قبلنا ، فليس مخصوصا بنا ، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله أياما معدودات ، أو يحصرها العد من قلتها ، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره ، وأوجب عليه قضاء عدتها إذا صح وأقام ، ثم ذكر أن من أطاق الصوم وأراد الفطر فأفطر ، فإنه يفدي بإطعام مساكين ، ثم ذكر أن التطوع بالخير ، هو خير ، وأن الصوم أفضل من الفطر والفداء ، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان ، وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولا بالأخف فالأخف ، ينتهي إلى الحد الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة ، فيستقر الحكم . ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه ، وعذر من كان مريضا أو مسافرا ، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر ، هو لإرادته تعالى بالمكلفين للتيسير . ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر ، وإباحة الفطر للمريض والمسافر ، وإرادة اليسر بنا ، هو لتكميل العدة ، ولتعظيم الله ، ولرجاء الشكر ، فقابل كل مشروع بما يناسبه ، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ، ذكر قربه بالمكانة منهم ، فإذا سألوه أجابهم ، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت [ ص: 58 ] دعائه ، ثم طلب منهم الاستجابة له إذا دعاهم ، كما هو يجيبهم إذا دعوه ، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان : لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ، ثم امتن عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه ، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال : ( فالآن باشروهن ) ، وكذلك الأكل والشرب ، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل . ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم ، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف ، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراما نبه على ذلك بقوله : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) . ثم أشار إلى الحواجز وهي الحدود ، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدها هو الله تعالى ، فنهاهم عن قربانها ، فضلا عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها ، وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة : ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى ، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل ، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ، ونهاكم أيضا عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئا من الأموال التي لا يستحقونها ، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحا لهم ، وتوبيخا لهم : لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيئ ، كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها . وبما يترتب عليها .

ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام ، وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات ، حتى أنه جاء في الحديث : " فإن امرؤ سبه ، فليقل إني صائم " . وجاء عن الله تعالى : " الصوم لي وأنا أجزي به " . وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه . اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه ، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش . فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به ، واختتمت بمحرم منهي عنه ، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضا أمر ونهي ، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى تعالى عنه ، أعاننا الله عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية