الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تلك عشرة كاملة ) ، تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل ، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة ، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه : أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها ، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد ، فجيء بها للتوكيد ، كما تقول : زيد رجل صالح . وقال ابن عرفة : مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما . وحسن هذا القول الزمخشري بأن قال : فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة ، كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين ، فيتأكد العلم ، وفي أمثال العرب : علمان خير من علم . قال ابن عرفة : وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب ، وقد جاء : لا يحسب ولا يكتب ، وورد ذلك في كثير من أشعارهم . قال النابغة :


توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع



وقال الأعشى :


ثلاث بالغداة فهي حسبي     وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي     وشرب المرء فوق الري داء



وقال الفرزدق :

[ ص: 80 ]

ثلاث واثنتان وهن خمس     وسادسة تميل إلى شمام



وقال آخر :


فسرت إليهم عشرين شهرا     وأربعة فذلك حجتان



وقال المفضل : لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر ، وقال الزجاج : جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة : لأن الواو قد تقوم مقام " أو " ، ومنه : ( مثنى وثلاث ورباع ) ، فأزال احتمال التخيير ، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه ، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين : لأن الواو لا تكون بمعنى " أو " . وقال الزمخشري : الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن ، وابن سيرين . ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا ، أو واحدا منهما كان ممتثلا ؟ ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة ، انتهى كلامه . وفيه نظر : لأنه لا تتوهم الإباحة هنا : لأن السياق إنما هو سياق إيجاب ، وهو ينافي الإباحة ، ولا ينافي التخيير : لأن التخيير قد يكون في الواجبات . وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة ، وقيل : هو تقديم وتأخير تقديره : فتلك عشرة ، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم ، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد ، ولا يصح مثل هذا القول عنه ، وننزه القرآن عن مثله ، وقيل : ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة ، كقوله تعالى : ( وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) ، أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله : ( خلق الأرض في يومين ) . وقيل : ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد ، بل الكثرة . روى أبو عمرو بن العلاء ، وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ، أي : أكثر ، أرادوا التضعيف ، وهذا جاء في الأخبار . فله سبع وله سبعون وله سبعمائة . وقال الأزهري في قوله تعالى : ( سبعين مرة ) ، هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة ، ونقل أيضا عن المبرد أنه قال : تلك عشرة : لأنه يجوز أن يظن السامع أن ثم شيئا آخر بعد السبع ، فأزال الظن . وقيل : أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، لاشتباه سبعة وتسعة ، وقيل : أتى بعشرة لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المصومة في الحج ، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع ، والعشرة هي الموصوفة بالكمال ، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول .

قال الحسن : كاملة في الثواب في سدها مسد الهدي في المعنى الذي جعلت بدلا عنه ، وقيل : كاملة في الغرض والترتيب ، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة ، وقيل : كاملة في الثواب لمن لم يتمتع . وقيل : " كاملة " توكيد كما تقول : كتبته بيدي ، ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) . قال الزمخشري : وفيه ، يعني : في التأكيد زيادة توصية بصيامها ، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل : إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به ، وكان منك بمنزلة : الله الله لا تقصر ، وقيل : الصيغة خبر ومعناها الأمر ، أي : أكملوا صومها ، فذلك فرضها . وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر : لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكدا خلافا لظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر .

وبهذه الفوائد التي ذكرناها رد على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة ، فهو إيضاح للواضحات ، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة ، وذلك محال . والكمال وصف نسبي لا يختص بالعددية . كما زعموا لعنهم الله :


وكم من عائب قولا صحيحا     وآفته من الفهم السقيم



( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . تقدم ذكر التمتع وذكر ما يلزمه ، وهو الهدي ، وذكر بدله ، وهو الصوم ، واختلفوا في المشار إليه بذلك ، فقيل : المتمتع وما يلزمه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام ، ومن تمتع منهم أو قرن ، كان عليه دم جناية لا يأكل منه ، [ ص: 81 ] والقارن والمتمتع من أهل الآفاق دمهما دم نسك يأكلان منه ، وقيل : ما يلزم المتمتع ، وهو الهدي ، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئا ، وإنما الهدي وبدله على الأفقي . وقد تقدم الخلاف في المكي ، هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا ، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه : لأن المناسب في الترخص " اللام " والمناسب في الواجبات " على " . وإذا جاء ذلك " لمن " ولم يجئ على من ، وزعم بعضهم أن " اللام " هنا بمعنى : على ، كقوله : ( أولئك لهم اللعنة ) . وحاضروا المسجد الحرام . قال ابن عباس ، ومجاهد : أهل الحرم كله ، وقال مكحول ، وعطاء : من كان دون المواقيت من كل جهة ، وقال الزهري : من كان على يوم أو يومين ، وقال عطاء بن أبي رباح : أهل مكة وضجنان ، وذي طوى وما أشبهها . وقال قوم : أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة ، وهو مذهب أبي حنيفة . وقال قوم : أهل الحرم ، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة ، وهو مذهب الشافعي . وقال قوم : أهل مكة ، وأهل ذي طوى ، وهو مذهب مالك . وقال بعض العلماء : من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري ، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي ، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة .

والظاهر أن حاضري المسجد الحرام هم سكان مكة فقط : لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام ، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز ، فيه بعد ، وبعضه أبعد من بعض ، وذكر حضور الأهل والمراد حضوره هو : لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون . ( واتقوا الله ) لما تقدم أمر ونهي وواجب ، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حده الله تعالى ، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله : ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) : لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصا على تحصيل التقوى ، إذ بها يأمن من العقاب ، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة ، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع : لأن فيها إسناد الصفة للموصوف ، ثم ذكر من هي له حقيقة ، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حال الأهلة وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر ، وكان من الإخبار بالمغيب ، فوقع السؤال عن ذلك ، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم ، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج ، ثم ذكر شيئا مما كان يفعله من أحرم بالحج ، وكانوا يرون ذلك برا ، فرد عليهم فيه ، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها ، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله ، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها ، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم ، ونهوا عن الاعتداء ، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى ، ثم أمروا بقتل من ظفروا به ، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه ، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن ، أو بالتعذيب أشد من القتل ؛ لأن في القتل راحة من هذا كله ، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه ، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلا إن قاتلوكم ، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية وإسلاما ، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال ، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم ، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم ، ولا يقتل الإنسان إلا من كان متمكنا من قتله ، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله ، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام ، فإن الإسلام يجب ما قبله ، ولما كان الأمر بالقتال ، فيما سبق مقيدا مرة بمن قاتل ، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه ، أمرهم بالقتال على كل حال من قاتل ومن لم يقاتل ، وعند المسجد الحرام وغيره ، فنسخ هذا الأمر تلك القيود ، وصار مغيا أو معللا [ ص: 82 ] بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله ، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه ، وإنما الاعتداء على الظالمين ، وهم الكافرون ، كما ختم الأمر السابق بأن من انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه ، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه ، وهو شهر ذي القعدة ، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا لعمرة القضاء جائز لكم : بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية ، وصدوكم عن البيت ، ثم أكد ذلك بقوله : ( والحرمات قصاص ) ، فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة ، فكما هتكوا حرمة شهركم لا تبالوا بهتك حرمته لهم ، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته ، تأكيدا لما سبق ، وأمر بالتقوى ، فلا يوقع في المجازاة غير ما سوغه له ، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى ، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه ، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه ، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها ، ونهانا عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا ، ويقوون هم علينا ، فيئول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم ، إلى هلاكنا ، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى ، ثم أمرهم تعالى بالإحسان ، وأنه تعالى يحب من أحسن ، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما ، وأن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة ، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم ، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى .

ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة ، فيجب عليه ما يسر من الهدي ، والهدي يشمل : البعير ، والبقرة ، والشاة ، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ، والذي جرت العادة به في الهدي أن محله هو الحرم ، فخوطبوا بما كان سابقا لهم علمه به ، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله ، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض ، أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك ، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك . وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره ، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة ، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين ، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج ، فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي ، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي ، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي ، أو فقدان الهدي ، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في زمن وقوع الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه .

ثم أخبر أن هذه الأيام ، وإن اختلف زمان صيامها ، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة ، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها ، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر ، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به ، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج ، وما أمر بإيقاعه في غير الحج . ثم ذكر أن هذا التمتع ولازمه من الهدي أو الصوم ، هو مشروع لغير المكي ، ثم لما تقدم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواه ، كرر الأمر بالتقوى ، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى . وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام ، مستحكمة النظام ، منسوق بعضها على بعض ، ولا كنسق اللآلئ ، مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي . سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى ، معجزة أن يأتي بمثلها أحد من الورى .

التالي السابق


الخدمات العلمية