الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) ، نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة ، وهو : إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ، وإني فيك لراغب ، وما أشبه ذلك . أو : أريد النكاح ، وأحب امرأة كذا وكذا ، يعد أوصافها ، قاله ابن عباس . أو : إنك لنافقة ، وإن قضي شيء سيكون ، قاله الشعبي . أو : يصف لها نفسه ، وفخره ، وحسبه ونسبه ، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة . أو يقول لوليها : لا تسبقني بها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس : ( كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك ) ، وقد أول هذا على أنه منه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها ، لا أنه أرادها لنفسه ؛ ولذلك كره مجاهد أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سرا ، أو يقول : ما عليك تأيم ، ولعل الله يسوق إليك خيرا ، أو رب رجل يرغب فيك ، أو يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها . قال إبراهيم : أو يقول كل ما سوى التصريح ، قاله ابن زيد . والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ، ولا التنبيه عليه ، ولا الرفث ، وذكر الجماع ، والتحريض عليه . وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد ، فكما خالف نهي حكمي التعريض والتصريح في الخطبة ، فكذلك في القذف . ( أو أكننتم في أنفسكم ) ، أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ، ولم يصرحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن [ ص: 226 ] أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفي عنهما ، وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة ؛ فأباح الله التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل . ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ؛ لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات ؛ لأن التعريض بالخطبة أعظم حالا من ميل القلب .

( علم الله أنكم ستذكرونهن ) هذا عذر في التعريض ؛ لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ؛ فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون ) ، وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ؛ لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن . وقال الحسن : معنى " ستذكرونهن " : ستخطبونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا . انتهى . وقوله : " ستذكرونهن " شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض ، وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب . ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) ، هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو قوله : " ستذكرونهن " ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجها نهى فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالدا ، ولكن لا يواجهه بشر ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج " لكن " إلى جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد " لكن " إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ؛ لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء . قال الزمخشري : فإن قلت : أين المستدرك بقوله : ( ولكن لا تواعدوهن ) ؛ قلت : هو محذوف لدلالة : ( ستذكرونهن ) عليه ، ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) فاذكروهن ، ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) . انتهى كلامه . وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل " لكن " ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : " ستذكرونهن " ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ؛ فيحتاج إلى تقدير : " فاذكروهن " على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال : ولكن لا تخف مني . والسر : ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن العقد ؛ لأنه سبب فيه ، وقد فسر " السر " هنا بالزنا : الحسن ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي . ومما جاء " السر " في الوطء الحرام قول الحطيئة :


ويحرم سر جارتهم عليهم ويأكل جارهم أنف القصاع



وقال الأعشى :

[ ص: 227 ]

ولا تقربن جارة إن سرها     عليك حرام فانكحن أو تأبدا



وقال ابن جبير : السر هنا : النكاح . وقال ابن زيد : معنى ذلك : لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهم مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة . قال بعضهم : جماعا ، وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف . وقال ابن عباس ، وابن جبير أيضا ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومالك وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية . فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب " سرا " على الحال ، أي : مستسرين . وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول " تواعدوهن " محذوفا ، تقديره : النكاح ، وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : مواعدة سرا . وقيل التقدير : في سر ، فحذف في وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن ؛ لأن مسارتهن في الغالب بما يستحى من المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ؛ لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ، وأما إطلاق المواعدة سرا على العقد فبعيد أيضا . وأما قول الجمهور فبعيد أيضا ؛ لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سرا وجهرا ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر .

( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) ، هذا الاستثناء منقطع ؛ لأنه لا يندرج تحت " سرا " من قوله : ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) على أي تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول المعروف أن تقول للمعتدة : احبسي علي نفسك ، فإن لي بك رغبة ، فتقول هي : وأنا مثل ذلك . قال ابن عطية : وهذا عندي مواعدة . وإنما لتعريض قول الرجل : إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ، ونحو هذا . وقال الزمخشري : ( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) ، وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بـ ( لا تواعدوهن ) ، أي : لا تواعدوهن مواعدة قط ، إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهن إلا [ ص: 228 ] بالتعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من " سرا " ؛ لأدائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلا التعريض . انتهى كلام الزمخشري . ويحتاج إلى توضيح ؛ وذلك أنه جعله استثناء متصلا باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين : أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدره : لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا تقولوا لهن قولا تعدونهن به إلا قولا معروفا ؛ فصار هذا نظير : لا تضرب زيدا ضربا شديدا . والثاني : أن يكون استثناء مفرغا من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ، وقدره : إلا بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلا بالتعريض ، فكان المعنى : لا تواعدوهن سرا ، أي نكاحا بقول من الأقوال ، إلا بقول معروف ، وهو التعريض ؛ فحذف من " أن " حرف الجر ؛ فيبقى منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي تقدم في نظائره . والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو الباء التي للسبب . قوله : ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من " سرا " لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهن إلا التعريض ، والتعريض ليس مواعدا ؛ فلا يصح عنده أن ينصب عليه العامل ، وهذا عنده على أن يكون منقطعا نظير : ما رأيت أحدا إلا حمارا ، لكن هذا يصح فيه : ما رأيت إلا [ ص: 229 ] حمارا ، وذلك لا يصح فيه : لا تواعدوهن إلا التعريض ؛ لأن التعريض لا يكون مواعدا بل مواعدا به النكاح ، فانتصاب " سرا " على أنه مفعول ، فكذلك ينبغي أن يكون " أن تقولوا " مفعولا ، ولا يصح ذلك فيه ؛ فلا يصح أن يكون استثناء منقطعا ، هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعا . وما ذهب إليه ليس بصحيح ؛ لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين : أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد " إلا " كما مثلنا به في قولك : ما رأيت أحدا إلا حمارا ، وما في الدار أحد إلا حمارا ، وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ، ومذهب بني تميم إتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد " إلا " ، فتقول : ما رأيت إلا حمارا ، وما في الدار إلا حمار ؛ ويصح في الكلام : ما لهم به إلا اتباع الظن . والقسم الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد " إلا " ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر ؛ فما بعد " إلا " لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدر المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ؛ فاشترك هذا القسم مع الأول في تقدير " إلا " بـ " لكن " ، لكن الأول يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا يمكن . وإذا تقرر هذا فيكون قوله : ( إلا أن تقولوا ) استثناء منقطعا من هذا القسم الثاني ، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكن التعريض سائغ لكم ، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد " إلا " ؛ فلذلك منعه ، والله أعلم . وظاهر النهي في قوله : ( لا تواعدوهن سرا ) التحريم ، حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه : فيمن واعد في العدة ثم تزوجها بعد العدة ، قال : فراقها أحب إلي - دخل بها أو لم يدخل - وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب . وروى أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما . وقال ابن القاسم : وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي تأبيد التحريم . وقال الشافعي : لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلا بعد انقضاء العدة - صح النكاح ، والتصريح بهما مكروه . وقال ابن عطية : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة .

( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) ، نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهيا عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة . وانتصاب " عقدة " على المفعول به ؛ لتضمين " تعزموا " معنى ما يتعدى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصمموا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا . وقيل : انتصب ( عقدة ) على المصدر ، ومعنى تعزموا : تعقدوا . وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح . وحكى سيبويه أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي : على الظهر والبطن ، وقال الشاعر :


ولقد أبيت على الطوى وأظله     حتى أنال به كريم المأكل



الأصل : وأظل عليه ، فحذف ( على ) ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ؛ إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى ، قال الشاعر :

[ ص: 230 ]

عزمت على إقامة ذي صباح     لأمر ما يسود من يسود



وقد تقدم الكلام على نظير هذا في قوله : ( وإن عزموا الطلاق ) ، وعقدة النكاح : ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ؛ ولذلك قال ابن عطية : عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي ، ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدة . والكتاب هنا هو المكتوب ، أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدة أجله ، أي : وقت انقضائه . وقال الزجاج : الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدة ، فإذا انقضت العدة جاز الإقدام على التزوج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال عمر والجمهور : لا يتأبد التحريم . وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدونة : ويكون خاطبا من الخطاب . وحكى ابن الجلاب عن مالك : أنه يتأبد . وإن عقد عليها في العدة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدة ، ودخل بها في العدة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والليث ، وأحمد ، وغيرهم : يتأبد التحريم . وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين . وقال علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ بينهما ، ثم تعتد منه ويكون خاطبا من الخطاب . قال الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتد من الأول ، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر . وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي والثوري : عدة واحدة تكفيهما جميعا ، سواء كانت بالحمل ، أم بالإقراء ، أم بالأشهر .

( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) ، قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهن ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس . فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه . وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه . انتهى . فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي : فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ؛ فتكون الهاء في : فاحذروه ، ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في " عليه " على ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاءان ، ولما هددهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ؛ ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ؛ ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ؛ لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل . قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع . منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : ( والذين يتوفون ) الآية ، عام ، والمعنى على الخصوص . ومنها : النسخ ؛ إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين . ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عددا فلا يكون ذلك إلا لمعنى ، وذلك في قوله : ( أربعة أشهر وعشرا ) ، ومنها : الكناية ، في قوله : ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) ، كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات . ومنها : التعريض ، في قوله : ( يعلم ما في أنفسكم ) ومنها : التهديد ، بقوله : ( فاحذروه ) . ومنها : الزيادة في الوصف [ ص: 231 ] بقوله : ( غفور حليم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية