الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

أنه إذا لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع بالكتاب والسنة والإجماع كما تقدم ؛ قال - في رواية المروذي - فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة . كملت الحج وأمر الهدي .. . .

أما الثلاثة : فيجب أن يصومها قبل يوم النحر ؛ لأن الله سبحانه أمر بصومها في الحج ، ويوم النحر لا يجوز صومه ، فتعين أن يصام قبله ؛ لأن ما بعده ليس بحج إلا أيام التشريق على إحدى الروايتين ، والأفضل تأخير صومها حتى يكون آخرها يوم عرفة . هذا هو المذهب المنصوص في رواية الأثرم ، وأبي طالب ، وعليه عامة الأصحاب .

وحكى القاضي في المجرد : أن الأفضل أن يجعل آخرها يوم التروية ؛ لأن صوم يوم عرفة بعرفات لا يستحب ، فإذا جعل آخرها يوم التروية : أفطر يوما ، وفطره أفضل .

[ ص: 336 ] والأول أصح لما روي .. . ؛ ولأنه يستحب تأخيره لعله يقدر على الهدي قبل الشروع في الصيام فإنه أفضل ، وليتحقق عجزه عن الهدي وهذا يقتضي التأخير إلى آخر وقت الإمكان ، وصوم يوم عرفة ممكن ؛ لأنه لم ينه عن الصوم فيه ، ولأن هذه الأيام الثلاثة ؛ وهي يوم التروية ويوم عرفة واليوم الذي قبلهما أخص بالحج ؛ لأن فيهن يقع المسير إلى عرفات ، وبعض خطب الحج .

والصائم يوم عرفة صائم في حال فعل الحج فكان أشد امتثالا للأمر من غيره فكان أفضل . وإنما لم يستحب فيها صوم التطوع ، فأما الواجب فإنه يفعل فيها وفي غيرها . ويجوز الصوم من حين يحرم بالحج بلا تردد ؛ قال : في رواية ابن القاسم وسندي - : والصيام للمتعة يجب على المتمتع إذا عقد الإحرام وكان في أشهر الحج .

وهذا يدخل على من قال : لا تجزئ الكفارة قبل الحنث ، ولعل هذا لا يحج ، ينصرف وهم يقولون : يجزئه الصيام ، وفي قلبي من الصيام أيام التشريق شيء . وإنما أراد إحراما ذكره القاضي وغيره ؛ لأنه قال : إذا عقد الإحرام وكان في أشهر الحج ، وإنما يشترط هذا في الإحرام بالعمرة ؛ لأن الإحرام في أشهره لا يؤثر في إيجاب الدم ، ولأنه قاس به الكفارة قبل الحنث ؛ لأن أحد السببين قد وجد دون الآخر ، ولأنه قال : لعله لا يحج ينصرف ، وإنما ينصرف ويترك الحج قبل أن يحرم به ، ولأنه قال : وهم يقولون يجزئه الصيام . يعني أهل الرأي ، فحكى عنهم [ ص: 337 ] قولهم في مسألة الخلاف وهي الصوم بعد الإحرام بالعمرة وإن وافقهم فيها ، فأما الصوم بعد إحرام الحج فمجمع عليه لا يضاف إلى واحد بعينه .

وقال : في رواية الأثرم قال الله : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) قال : يصومها إذا أحرم ، والإحرام يوم التروية ، ويريد أن يصوم يوما قبل التروية ، ويكره أن يصومها قبل أن يقدم مكة ، ولا يبالي أن يقدم أولها بعد أن يصومها في أشهر الحج ، فإن صامها قبل أن يحرم فجائز .

وذكر القاضي وابن عقيل : رواية أخرى أنه يجوز صومها قبل الإحرام بالعمرة من أول أشهر الحج ، ولعل ذلك لقوله : ولا يبالي أن يقدم أولها بعد أن يصومها في أشهر الحج ، فاعتبر مجرد وقوعها في أشهر الحج ولم يعتبر وقوعها بعد الإحرام ، ثم قال : فإن صامها قبل أن يحرم فجائز ، وعنى به إحرام العمرة [ ص: 338 ] لأنه تقدم صومها قبل إحرام الحج قبل ذلك .

وقال القاضي - في خلافه - : قوله أن يحرم بالحج : أراد به الإحرام بالحج . وقد حكى بعض أصحابنا رواية : أنه إنما يجوز أن يصومها قبل إحرام الحج بعد التحلل من العمرة ، ولعله أخذ ذلك من هذه الرواية ؛ لأنه قد نص على جواز صومها قبل الإحرام بالحج إذا كان في أشهر الحج ، ولم يجز صومها من حين الإحرام بالعمرة ، بل قد كره أن يصوم قبل أن يقدم مكة ، لأنه يكون حينئذ معتمرا لا حاجا ، ويحتمل أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه ؛ لأنه مسافر والصوم للمسافر مكروه عنده في إحدى الروايتين .

وقال - في رواية صالح - : كان ابن عمر وعائشة يقولان : يصوم المتمتع حين يهل فإن فاته صام أيام التشريق .

وذلك لما روى . . عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة قال للناس : ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء [ ص: 339 ] حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى ، فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر - وليحلل ثم ليهل بالحج ، وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ) متفق عليه .

وقد تقدمت الأحاديث أن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا متمتعين في حجة الوداع ، وأنهم إنما أحرموا بالحج يوم التروية حين ذهبوا إلى منى ، ولم يستثن واحد منهم ، أنه أحرم قبل ذلك ؛ وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كلهم إذا خرجوا إلى منى أن يحرموا بالحج ، ولم يأمر أحدا منهم بتقديم إحرامه بالحج مع علمه بأنهم متمتعون وأن كثيرا منهم لا يجد الهدي ، ولهذا بين لهم حكم من يجد الهدي ومن لا يجده .

ومن أحرم يوم التروية فإنه يحتاج أن يصوم يوما من الثلاثة قبل الإحرام بالحج ، بل يومين ؛ لأن يوم التروية إنما أحرموا نهارا وقد أنشئوا الصوم قبل الإحرام ، ولو لم يجز الصوم قبل الإحرام بالحج لوجب تقديم الإحرام بالحج قبل أن يطلع فجر اليوم السابع ، والصحابة لم يفعلوه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم به ، بل أمرهم بخلافه ، ولهذا لم يختلف نص أحمد في هذه الصورة .

ثم إن قيل : .. . ، وإن قيل : يجوز قبل الإحرام بالعمرة ، فيحمل بالعمرة ، فيحمل قوله : ( في الحج ) على أن المراد أشهر الحج .

وأما وجه المشهور : فإنه إذا أحرم بالعمرة فقد انعقد سبب الوجوب في حقه ودخل في التمتع بدليل أنه لو ساق الهدي معه لمنعه الهدي من الإحلال .

[ ص: 340 ] فإن قيل : فقد قال الله تعالى : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) وهذا يقتضي وقوع الصيام بعد الإحرام بالحج ؛ لأنه إنما يكون متمتعا بالعمرة إلى الحج إذا أحرم به ، ولأنه قال : (في الحج) فإذا صام قبله لم يجز .

قلنا : هو ينوي التمتع ويعتمده من حين يحرم بالعمرة ، ويسمى متمتعا من حينئذ ، ويقال : قد تمتع بالعمرة إلى الحج كما يقال : أفرد الحج ، وقرن بين العمرة والحج ، وهذا كثير في الكلام المقبول . ولو لم يكن متمتعا إلى أن يحرم بالحج ، فليس في الآية أن الصوم بعد كونه متمتعا ، وإنما في الآية أن يصوم في الحج ، على أن قوله : ( فمن تمتع بالعمرة ) يجوز أن يكون معناه : فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج ، كما قال : ( فإذا قرأت القرآن ) و ( إذا قمتم إلى الصلاة ) ، ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) أي يريدون العود .. . .

وأما قوله : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) فقد قال قوم : أي في حال [ ص: 341 ] الحج ويكون نفس إحرام الحج ظرفا ووعاء للصوم ، كما يقال : دعا في صلاته ، وتكلم في صلاته ، ولبى في حجه ، وتمضمض في وضوئه ، وهذا لأن الأزمنة لما كانت تحوي الأفعال وتشملها : فالفعل قد يحوي فعلا آخر .

وقال أصحابنا : فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج ؛ لأن الفعل لا يكون ظرفا للفعل إلا على سبيل التجوز مع تقدير الزمان ؛ ولهذا قال أهل الإعراب : إن العرب تجعل المصادر أحيانا على سبيل التوسع ، إما على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فيكون المحذوف مقدرا ، وإما على تضمين الفعل : الزمان لاستلزامه إياه فيكون الزمان مضمنا ، قالوا : وإذا كان المعنى : فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج ، فالحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، وكلام أحمد يشير إلى هذا الوجه ، ويؤيد ذلك أنه قال : ( فصيام ثلاثة أيام في الحج ) ثم قال بعيد ذلك : ( الحج أشهر معلومات ) فكأنه قال : فصيام ثلاثة أيام في أشهر معلومات والمعنى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فليصم ثلاثة أيام في أشهر الحج لا يؤخرهن عن وقت الحج .

وعلى القول الأول : فإذا أحرم بالعمرة إلى الحج فهو حاج ، فإذا صامها حينئذ فقد صامها في حجه ؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر ، وعمرة التمتع جزء من الحج بعض له ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، وشبك بين أصابعه ) والمتمتع حاج من حين يحرم بالعمرة إلا أن إحرامه يتخلله حل بخلاف من أفرد العمرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية