الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

في الشروط التي بها يكون متمتعا يجب عليه الهدي ، وهي عشرة :

أحدها : أن يعتمر في أشهر الحج ، فإن اعتمر في رمضان ، أو ما قبله من الشهور : لم يكن متمتعا ولا هدي عليه ، وهو أفضل من الاعتمار في أشهر الحج ، وكذلك إن اعتمر بعد الحج لم يجب عليه هدي ؛ نص عليه ، فقال : لا يجب على من اعتمر بعد الحج هدي .

فلو تحلل من الحج يوم النحر وأحرم فيه بعمرة ، فقال القاضي : لا يكون متمتعا على ظاهر كلام أحمد ؛ لأنه وإن كان من أشهر الحج ، فقد جعل في حكم ما ليس من أشهره ، بدليل أن الحج يفوت فيه ولا يدرك بإدراكه .

وهذا مبني على جواز الإحرام بالعمرة .

ومعنى العمرة في أشهر الحج : أن يحرم في أشهر الحج ، فلو أحرم قبل هلال شوال بساعة : لم يكن متمتعا ، وكانت عمرته للشهر الذي أهل فيه لا للشهر الذي أحل فيه ، أو طاف فيه ، نص عليه في مواضع ، حتى قال : عمرة في شهر رمضان تعدل حجة ، فإن أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة في شهر رمضان .

وقال - فيمن دخل بعمرة في شهر رمضان ودخل الحرم في شوال - : عمرته في الشهر الذي أهل ، واحتج على ذلك بما رواه بإسناده عن أبي الزبير [ ص: 361 ] أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى ، ثم يخلو إلا ليلة واحدة ، ثم تحيض قال : " لتخرج ثم لتهل بعمرة ، ثم لتنتظر حتى تطهر ، ثم لتطف بالكعبة وتصلي " . ولا يعرف له مخالف في الصحابة .

ولأن المتمتع إنما وجب عليه الدم لترفهه بسقوط أحد السفرين ، وذلك أنه قد كان يمكنه أن يحرم بالحج فقط فلما عدل عنه إلى الإحرام بعمرة وأتى بالحج أيضا : شرع له الهدي . فإذا أهل قبل شوال لم يمكنه الإهلال بالحج ؛ لأنه خلاف السنة ، فأحرم بالعمرة في وقت تنفرد به فهو كما لو أحرم لها وطاف قبل شوال .

الشرط الثاني : أن يحج من عامه ذلك ، فلو اعتمر في أشهر الحج ، ورجع إلى مصره ، أو أقام بالحرم ولم يحج فليس بمتمتع بالعمرة إلى الحج .

الشرط الثالث : أن لا يسافر بعد العمرة ، فإن سافر ثم رجع إلى مكة : فليس بمتمتع ؛ لأنه سافر للحج سفرا كما سافر للعمرة سفرا ولم يترفه بسقوط أحد السفرين .

وأما حد السفر الذي يخرجه عن التمتع : فقد قال أحمد - في رواية أبي طالب - : إذا اعتمر في أشهر الحج ، ثم سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس بمتمتع - ويعجبني هذا القول - وإنما يكون المتمتع من جاء إلى مكة في شوال ، أو ذي القعدة ، ومن جاء في غير هذه الشهور فإنما هي عمرة وليس هو متمتعا ، وإذا دخل بعمرة في هذه الشهور ثم انتظر حتى يهل بالحج من مكة فهو متمتع . فإن خرج إلى الميقات وأهل بالحج فليس بمتمتع .

وقال - في رواية حرب والأثرم - من أحرم بعمرة في أشهر الحج فهو [ ص: 362 ] متمتع إذا أقام حتى يحج فإن خرج من الحرم سفرا يقصر في مثله الصلاة ، ثم رجع فحج : فليس بمتمتع ولا هدي عليه .

وقال - في رواية يوسف بن موسى ، وأحمد بن الحسين - : إذا أقام فأنشأ الحج في مكة فهو متمتع ، فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع .

وقال - في رواية عبد الله - : إذا سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس بمتمتع .

واختلفت عبارة أصحابنا في ذلك ؛ فقال القاضي - في المجرد - وابن عقيل - في بعض المواضع - وأبو الخطاب وجماعة وغيرهم : إذا خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج ، أو خرج إلى موضع بينه وبين مكة ما يقصر فيه الصلاة ، فأحرم منه فليس بمتمتع ، وجعلوا كل واحد من خروجه إلى الميقات ، وإلى مسافة القصر : رافعا للمتعة ؛ لأنه قد نص على كل منهما في رواية واحدة ، وفي روايات متعددة . ومن هؤلاء من ذكر رواية أخرى : أن الذي يزيل المتعة : السفر إلى مسافة القصر من غير اعتبار الميقات ؛ لأنه قد نص على ذلك في روايات متعددة ، ولم يذكر الميقات ، ومن سلك هذا السبيل لزمه أن يحكي رواية ثالثة : بأن الاعتبار بخروجه إلى الميقات من غير اعتبار مسافة القصر ؛ لأنه قد نص على ذلك في روايات أخرى .

[ ص: 363 ] وقال الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وأبو الخطاب في خلافهما ، والشريف أبو جعفر ، وابن عقيل - في مواضع - : الاعتبار بمسافة القصر خاصة . فمن سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس هو بمتمتع .

قال القاضي : إذا رجع المتمتع إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة لم يسقط عنه دم المتعة ، وإن رجع إلى موضع تقصر فيه الصلاة سقط عنه دم المتعة . قال : وقول أحمد فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع محمول على أن بين الميقات وبين مكة مسافة القصر .

وعند هؤلاء أن معنى كلام أحمد يرجع إلى هذا .

واعلم أن هذا الاختلاف لا يرجع إلى اختلاف في الحكم ، وذلك لأن المواقيت كلها بينها وبين مكة مسافة القصر ؛ فإن ذا الحليفة بينها وبين مكة عشر مراحل من ناحية الساحل ، والجحفة بينها وبين مكة ثلاثة أيام ، وسائر المواقيت بينها وبين مكة يومان قاصدان . فكل من خرج إلى ميقات فقد خرج إلى مسافة القصر ، وقد يخرج إلى مسافة القصر من ناحية المدينة والشام . ولا يصل إلى الميقات ، فإذن كلا الطريقين جيدة ، وإن كان الضابط في الخفين السفر إلى مسافة القصر . لكن من اعتقد في المسألة روايتين توهم أنه يخرج إلى الميقات من لا يبلغ مسافة القصر ليجعل المسألة على روايتين ، أو تناول كلام أحمد في بعض المواضع ، أو يقول : إنه لا يسقط عنه المتعة بالخروج إلى ميقاته ، أو يعتقد أن كلا منهما شرط على انفراده : فقد غلط غلطا مستنده عدم العلم بالمسافة ، وهذا واقع في كلام طائفة من أصحابنا ، وهو مخالفة واضحة [ ص: 364 ] لكلام أحمد ؛ فإنه قد نص على أن الخروج إلى الميقات مسقط من غير تقييد بمسافات المواقيت .

وإنما اعتبره أحمد ؛ لأنه إذا سافر بعد العمرة إلى مسافة القصر فأحرم منها بالحج من ناحية ميقاته أو غيرها ، لم يترفه بسقوط أحد السفرين ، بل سافر للحج سفرا صحيحا فزال معنى التمتع في حقه ، وإن لم يرجع إلى مصره ، أو لم يبلغ الميقات فإن الموجب للدم سقوط أحد السفرين ، بدليل وجوبه على القارن لما جمع بين النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج . ولو كانت العلة أنه لم يحرم من الميقات لم يجب على القارن دم .

وقد تقدم أن المتمتع - في لسان الصحابة والتابعين - : هو أن يجمع بين العمرة والحج في أشهره بسفرة واحدة ، فإن سافر بينهما إلى مسافة القصر ، ثم رجع فأحرم بالحج من مكة ، أو أحرم به من دون مسافة القصر : فعليه دم لإحرامه دون ميقاته ؛ لأن ميقات من إن شاء الحج من دون المواقيت من موضعه ، وليس عليه دم متعة ، كما لو رجع إلى مصره ثم دخل مكة بغير إحرام . ولهذا أطلق أحمد القول : بسفر تقصر فيه الصلاة ، ولم يشترط إحرامه منه في كونه غير متمتع .

واشترط أبو الخطاب وغيره من أصحابنا : أن يحرم بالحج من مسافة القصر .

وقال بعضهم : إذا سافر وأحرم من مكة فليس بمتمتع .

وإن رجع إلى مكة غير قاصد للحج - محلا - ثم بدا له الحج فأحرم منها فعليه أيضا دم كما تقدم .

وإن سافر قبل التحلل من العمرة إلى ما يقصر فيه الصلاة ورجع حراما ، إما [ ص: 365 ] بأن يكون سائقا هديا ، أو لم يكن فقد قيل : ليس بتمتع أيضا على ظاهر قول أصحابنا . والأشبه : أنه متمتع كما لو سافر القارن ، أو أحرم بالحج من مكة ، ثم سافر محرما إلى ما يقصر فيه الصلاة .

الشرط الرابع : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ؛ لقوله سبحانه : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) ، وحاضرو المسجد الحرام : أهله ومن بينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة .

وهل العبرة ببعده عن الحرم ، أو عن نفس مكة ؟ على روايتين .

وعنه أنهم هؤلاء ومن دون المواقيت مطلقا . والأول هو المذهب . قال - في رواية أبي طالب - فيمن كان حول مكة فيما لا تقصر فيه الصلاة : فهو [ ص: 366 ] مثل أهل مكة ليس عليهم عمرة ، ولا متعة إذا قدموا في أشهر الحج . ومن كان منزله فيما يقصر فيه الصلاة : فعليه المتعة إذا قدم في أشهر الحج ، وأقام إلى الحج .

وقال - في رواية المروذي - : إذا كان منزله دون الميقات مما لا يقصر فيه الصلاة فهو من أهل مكة .. . .

فعلى هذا : أهل المواقيت ليسوا من حاضري المسجد الحرام ؛ لأن أدناهم بينه وبين مكة ليلتان .

وذكر القاضي : أن منها ما بينه وبين مكة دون ذلك وهم أهل قرن وذات .. . .

التالي السابق


الخدمات العلمية