الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وينحر الهدي في موضع حصره حيث كان من حل ، أو حرم ، هذا هو المنصوص عن - في مواضع - وعليه أكثر أصحابه .

وقال أبو بكر : إن أمكنه أن يبعث بالهدي حتى ينحر بمكة في الموضع بعث به ، وإلا حل يوم النحر .

قال ابن أبي موسى : قال بعض أصحابنا : لا ينحر هدي الإحصار إلا بالحرم . [ ص: 371 ] لقوله ( هديا بالغ الكعبة ) ، وقوله : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) ؛ لأن الله قال : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) ، ثم قال : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) والهدي المطلق : إنما هو ما أهدي إلى الحرم بخلاف النسك ، ثم إنه قال : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) . وهدي المحصر داخل في هذا ، لا سيما وقد تقدم ذكره .

ومحل الهدي : الحرم لقوله سبحانه : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) .

ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله ، ومن قال هذا زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر بالحرم ، وأن طرف الحديبية من الحرم .

ووجه الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية : نحروا وحلقوا بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل .

[ ص: 372 ] ولأن الحل : موضع للتحلل في حق المحصر ، فيكون موضعا للنحر كالحرم ، وهذا لأن محل شعائر الله إلىالبيت العتيق من الأعمال والهدي ، فمتى طاف المحرم بالبيت : فقد شرع في التحلل ، ومتى وصلت الهدايا إلى الحرم : فقد بلغت محلها . وهذا عند القدرة والاختيار .

فأما في موضع العجز : فقد جوز الله للمحصر أن يحل من إحرامه بالحل ، وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه ، ولا يقال : الهدي قد يمكن إرسالها .. . .

وأما قوله : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) فإن محله المكان الذي يحل فيه ؛ وهذا في حال الاختيار هو الحرم ، كما قال : ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره .

وأما وقت الذبح والإحلال : ففيه روايتان ؛ إحداهما : أنه يذبحه وقت الإحصار ويحل عقيبه ، نقلها الميموني ، وأبو طالب ، وابن منصور ، وهذه [ ص: 373 ] اختيار أصحابنا .

والثانية : لا يذبح ويحل إلى يوم النحر ، وهي اختيار أبي بكر ، قال - في رواية أبي الحارث - فيمن أحصر بعدو : أقام حتى يعلم أن الحج قد فاته ، فإذا فاته الحج نحر الهدي ، وإن كان معه في موضعه ، ورجع إلى أهله وعليه الحج من قابل ، وإن كان إحصاره بمرض لم يحل من إحرامه حتى يطوف بالبيت .

وقال - في رواية ابن منصور - في محرم أحصر بحج ومعه هدي قد ساقه : لا ينحر إلى يوم النحر ، فقيل له : قد يئس من الوصول إلى البيت ، فقال : وإن يئس كيف ينحر قبل يوم النحر ، ولا يحل إلى يوم النحر . فإن لم يكن معه هدي صام عشرة أيام .

وذلك لقوله : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) . والمحل : اسم للمكان ، وللوقت الذي يحل فيه ذبحه . ولهذا القول مأخذان ذكرهما أحمد ؛ أحدهما : أن المحرم بالحج لا يحل إلى يوم النحر ، فإذا كان قد صد عن الوقوف والطواف : فهو لم يصد عن الإحرام : فيجب أن يأتي بما أمكنه ، وهو بقاؤه محرما إلى يوم النحر فحينئذ يتيقن فوت الحج ، فيتحلل بالهدي كما يتحلل المفوت المهل بعمرة ، وإلى هذا أشار في رواية أبي الحارث .

الثاني : أن الهدي المسوق لا يجوز نحره إلا في الحرم يوم النحر ، فإذا لم [ ص: 374 ] يمكن إيصاله إلى الحرم وجب أن يبقى إلى يوم النحر ، فإنه وقت ذبحه كدم التمتع والقران وكذلك غير المسوق ، فإن دم الإحصار يستفيد به التحلل كدم التمتع والقران ، فيجب أن يؤخر ذبحه إلى يوم النحر .

ووجه الأول : أن الله قال : ( فما استيسر من الهدي ) وهذا مطلق ومحله : هو ما يحل ذبحه فيه من مكان وزمان ، والشأن فيه : أن هذا إن سلم أن الوقت محل ، فقد قيل : إن المحل هو المكان خاصة ؛ لأن الله جعل المحل في الحج والعمرة ، وهدي العمرة لا وقت له يختص به .

وأيضا : لو لم يجز التحلل إلى يوم النحر لكان بمنزلة من فاته الحج ، والمفوت : لا يتحلل إلا بالعمرة كالمحصر بمرض . يبين ذلك أنه إذا فات الحج يبقى كالمحرم بعمرة ، والعمرة ليس لها وقت تفوت فيه ، فينبغي أن يبقى محرما إلى أن يصل كالمحصر بمرض ، ولكان ينبغي أن لا يجوز التحلل للمحرم إلا بعمرة إذ ليس لإحرامه غاية في الزمان .

وأيضا : فإن هدي المحصر ليس بنسك محض ، وإنما هو دم جبران لما يستبيحه من المحظورات ، ويتركه من الواجبات ، ولهذا لا يأكل منه شيئا فلم ينفذ بوقت كفدية الأذى وترك الواجب . وعكسه دم المتعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية