الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فنادته الملائكة ) قيل : النداء يستعمل في التبشير ، وفيما ينبغي أن يسرع به ، وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخبارا من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ؛ ولغير ذلك ، كما جاء . " ‌يا أهل النار خلود بلا موت " وجاء : ( ياهامان ابن لي صرحا ) وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم ( إن الله يبشرك ) لا أن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيدا كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين . وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته .

وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك . والظاهر أن مناديه جماعة من [ ص: 446 ] الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى - ملائكة إلى قوم لوط ، وإلى إبراهيم ، وفي غير ما قصه . وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ، ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم . وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : و جبريل رئيس الملائكة .

وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة ، وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث ، والملائكة : جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وأن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل : أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسن الحذف هنا الفصل بالمفعول .

( وهو قائم يصلي في المحراب ) ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن الله يبشرك . وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين . وقيل : القبلة . والظاهر أن المحراب ، هو المحراب الذي قبله في قوله : ( كلما دخل عليها زكريا المحراب ) ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة . وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم . وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته .

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، ويصلي : يحتمل أن يكون صفة : لـ " قائم " ، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير المستكن في : " قائم " ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا : لـ " هو " ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد . ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بـ " قائم " ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالا من الضمير الذي استكن في : " قائم " ، فيجوز . لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه ، وفي : يصلي ، وهو : " قائم " ; لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : " قائم " ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور .

وفي قوله : ( قائم يصلي في المحراب ) قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعا لمن قبلنا . ورقق ورش راء : " المحراب " ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كان : " المحراب " ، مجرورا ، ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر . ولم يقيد بالجر .

( إن الله يبشرك بيحيى ) قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة . فعند البصريين الكسر على إضمار القول ، أي : وقالت . وعند الكوفيين لا إضمار ; لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت " بنادته " ، لأن معناه قالت له . وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير : وحين حذفت ، فالموضع نصب بالفعل ، أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب .

وقرأ عبد الله : يا زكريا إن الله . فقوله : يا زكريا ، هو معمول النداء . فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : " إن " ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى . وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل . ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ .

[ ص: 447 ] وقد قال في سورة مريم : ( يازكريا إنا نبشرك ) فأسند ذلك إليه تعالى . وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا ، وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففا . وافقهما ابن كثير ، وأبو عمر ، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر : ( ألا فبم تبشرون ؟ ) و مريم ، وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين ، وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغى ثلاث ، ذكرها غير واحد من اللغويين ، وقال الشاعر :


بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها



وقال الآخر :


يا بشر حق لوجهك التبشير     هلا غضبت لنا وأنت أمير



بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ، ومن امرأتك ، فإن كان أعجميا فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربيا فللعلمية ، ووزن الفعل ، كيعمر . وقد ذكرنا هذا . وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة . قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان . وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة ، وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : " من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة " وقال مقاتل : سمي يحيى ; لأنه أحياه بين شيخ ، وعجوز ، وقال الزجاج : حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها ، وقال ابن عباس : إن الله أحيا به عقر أمه ، وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلا ، كالمفازة ، والسليم ، وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى .

( مصدقا بكلمة من الله ) الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ؟ قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم . قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أول من صدق بعيسى ، وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون ، وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق . وقال أبو عبيدة ، وغيره ( بكلمة من الله ) أي : بكتاب من الله ؛ التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة ، روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي : قصيدته . وفي الحديث : " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل     وكل نعيم لا محالة زائل "



وقيل معنى : ( بكلمة من الله ) هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف ، وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف ، وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين . ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالا للكسرة في العين .

وانتصب : مصدقا ، على الحال ، قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة ، بحسب حال هؤلاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام .

( وسيدا ) قال ابن عباس : السيد : الكريم ، وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر :


سيد لا تحل حبوته     بوادر الجاهلين إن جهلوا



وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب ، وقال الضحاك : الحسن الخلق ، وقال سالم : التقي ، وقال ابن زيد : الشريف ، وقال ابن المسيب : الفقيه العالم ، وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله ، وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه ، وقال أبو بكر الوراق : المتوكل ، وقال الترمذي : العظيم الهمة ، وقال الثوري : السيد من لا يحسد ؛ من قولهم : الحسود لا يسود ، وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه .

[ ص: 448 ] وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي تجب طاعته . ولهذا قيل للزوج : سيد ، وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي .

وجاء في الحديث : " السيد من أعطي مالا ورزق سماحا ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس " . وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه ، وقال في الحديث لبني سلمة ، وقد سألهم من سيدكم فقالوا : الجد بن قيس على بخله ، فقال - عليه السلام : " وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح " . وسمي أيضا سعد بن معاذ سيدا ، في قوله : " قوموا إلى سيدكم " . أي : رئيسكم ، والمطاع فيكم . وسمي الحسن بن علي : سيدا . في قوله : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " . وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي : يفوقها في الشرف . وكان يحيى قائما لقومه ، قائما للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ انتهى كلامه .

وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه ، دون أن يوقع في باطل ، وتفصيله : بذل الندى ، وهو الكرم ، وكف الأذى ، وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات ، وجبر الكسير ، والإنقاذ من الهلكات . وقد يوجد من الثقاة العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيدا ، وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة . وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما ، انتهى كلامه .

وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيرا في وصف يحيى - عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون . وفي قوله : وسيدا ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح . ولا يقال ذلك للظالم ، والمنافق ، والكافر .

وورد النهي : " لا تقولوا للمنافق سيدا " ، وما جاء من قوله ( أطعنا سادتنا ) فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم . قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنت سيدنا ، وذو الطول علينا ، فقال : " السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم " ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيدا ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح .

( وحصورا ) هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر :


وحصورا لا يريد نكاحا     لا ولا يبتغي النساء الصباحا



وقد روي أنه تزوج مع ذلك ; ليكون أغض لبصره ، وقيل : الحاصر نفسه عن الشهوات ، وقيل : عن معاصي الله ، وقيل : الحصور الهيوب ، وقال ابن مسعود أيضا ، وابن عباس أيضا ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له ، يتأتى به النكاح ولا ينزل . وإيراد الحصور وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى - عليه السلام - أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء ، وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك .

قال مجاهد : كان طعام يحيى العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرى في وجهه . قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء ، وغيرهن من شهوات الدنيا . وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل :


وشارب مربح بالكأس نادمني     لا بالحصور ولا فيها بسآر



فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو . وقد روي أنه : مر ، وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : [ ص: 449 ] ما للعب خلقت . والحصور والحصر كاتم السر ، قال جرير :


ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا     حصرا بسرك يا أميم ضنينا



وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير . وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها . وقد استدل بقوله ( وحصورا ) من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور ، خلافا لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس .

( ونبيا ) هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولا الوصف الذي تنبني عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة ، وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة ، وخصوصا فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا ، وهي : رتبة النبوة . وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف مريم - عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابه إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيدا ، فاشتركا في هذا الوصف . وكانت مريم عذراء بتولا لم يمسسها بشر ، وكان يحيى لا يقرب النساء . وكانت مريم أتاها الملك رسولا من عند الله وحاورتاها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبيا ، وحقيقة النبوة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف .

( من الصالحين ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : ( ذرية بعضها من بعض ) ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحا من جملة الصالحين . كما قال تعالى في وصف إبراهيم ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح ; لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك ، وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم انتهى .

وقد قال سليمان بعد حصول النبوة له : ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيبا من الصلاح كان أعلى قدرا . وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلا بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرهم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيدا . وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة .

( قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) كان قد تقدم سؤاله ربه : ( رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) فلا شك في إمكانية ذلك وجوازه : وإذا كان ذلك ممكنا ، وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ .

وأجيب بوجوه : أحدها : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقرا ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعا وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانيا وتسعين سنة ، وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة ، وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة .

أم أعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة ، وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال . قال معناه : الحسن ، والأصم . الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من [ ص: 450 ] صلبه نفسه أم من بنيه ؟ .

الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال ، والتبشير أربعون سنة ، ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة . الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات ، وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبدا له عادة . الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزا عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع ، وامرأته على القبول على حال الكبر ؟ السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر ، أم من غيرها .

السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي ، قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : ( أنى يكون لي غلام ) ليبين الله له أنه من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي . قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع .

وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما يتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله . وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة . كما قالت مريم انتهى . وعلى ما قاله : لو كان استبعادا لما سأله بقوله : ( هب لي من لدنك ذرية طيبة ) لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكنا لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع .

و : يكون ، يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام ، أي : أنى يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الاسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، إذ تقدم أداة الاستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة .

وقيل : ( وامرأتي عاقر ) حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ، فلم يكن وصفا لازما ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقرا أمر لازم لها لم يكن وصفا طارئا عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر في : وحقيقة البلوغ في الأجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه .

وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنها طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : ( وقد بلغت من الكبر عتيا ) وكما قال :


مثل القنافذ هداجون قد بلغت     نجران أو بلغت سوءاتهم هجر



وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر انتهى . وهنا قدم حال نفسه ، وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعى الألفاظ في الحكاية ، إنما تراعى المعاني المدرجة في الألفاظ . وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ، ( واشتعل الرأس شيبا ) . وقال : ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ) ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتيا رؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعرا بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام .

( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكون الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة ، أم من التي لا تجري على العادة ؟ .

[ ص: 451 ] وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلا مثل ذلك الفعل ، أو على أنها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من " يفعل " ، وذلك على مذهب سيبويه ، وقد تقدم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون " كذلك الله " مبتدأ وخبرا ، وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون ( يفعل ما يشاء ) شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : ( ويفعل ما يشاء ) بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات انتهى .

وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله انتهى . وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ ، والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول : الكلام جملة واحدة . قال ابن عطية ، وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا ، وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ، ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام . والكلام تام على هذا التأويل . في قوله : كذلك ، وقوله : الله يفعل ما يشاء . جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب انتهى كلامه . فيكون : كذلك ، متعلقا بمحذوف ، وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد ، وأنت بحالتك . والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية