الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
والواجب على الغاصب ضمان القيمة عند تعذر رد العين عندنا وقال أهل المدينة : رحمهم الله الواجب هو المثل لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال : { كنت في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب الحجاب فأتي بقصعة من ثريد من عند بعض أزواجه فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فانكسرت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من الأرض ويقول : غارت أمكم غارت أمكم ، ثم جاءت عائشة رضي الله تعالى عنها بقصعة مثل تلك القصعة فردتها ، واستحسن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغيرة } وقال علي رضي الله عنه في المغرور : يفك الغلام بالغلام ، الجارية بالجارية ولكنا نحتج بحديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال في عبد بين شريكين يعتقه أحدهما : فإن كان موسرا ضمن قيمة نصيب شريكه ، وإن كان معسرا سعى العبد في قيمة نصيب شريكه غير مشقوق عليه } فهذا تنصيص على اعتبار القيمة فيما لا مثل له .

وتأويل حديث أنس رضي الله عنه أن الرد كان على طريق المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق الضمان ، وقد كانت القصعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى قول علي رضي الله عنه يفك الغلام بالغلام يعني بقيمة الغلام ، فقد صح عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا في ولد المغرور أنه حر بالقيمة .

ثم بدأ محمد الكتاب بحديث ابن سيرين عن شريح رحمهما الله قال : من كسر عصى فهي له ، وعليه مثله ، وذكر بعده عن الحكم عن شريح قال : من كسر عصى فهي له ، وعليه قيمتها ، فأما أن يقول : مراده بالمثل المذكور في الحديث الأول المماثلة في المالية خاصة وذلك في القيمة أو يحمل [ ص: 52 ] الحديث الأول على العصي الصغيرة ، فإنها من العدديات المتقاربة لا تتفاوت آحادها في المالية كالسهام ، وما ذكر في الحديث الثاني محمول على العصي الكبيرة ، فإنها كالعدديات المتفاوتة ; لأن آحادها تتفاوت في المالية . ثم المراد بالكسر ما يكون فاحشا حتى لا يمكن التقضي به بعد ذلك ، فأما إذا كان الكسر يسيرا فليس على الكاسر إلا ضمان النقصان ; لأنه غير مفوت للمنفعة المطلوبة من العين ، وإنما يمكن نقصانا في ماليته فعليه ضمان النقصان ، وفي الكسر الفاحش هو مستهلك من وجه لفوات المنفعة المطلوبة من العين ، فكان لصاحبها حق تضمين القيمة إن شاء ، وهذا الحكم في كل عين إلا في الأموال الربوية ، فإن التعييب هناك فاحشا كان أو يسيرا يثبت لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين ولا يرجع على الغاصب بشيء ، وبين أن يسلم العين إليه ويضمنه مثله عندنا ; لأن تضمين النقصان متعذر ، فإنه يتعدى إلى الربا ; لأنه يسلم له قدر ملكه وزيادة ، وعلى قول الشافعي رحمه الله له أن يضمنه النقصان ، وهو بناء على أن من مذهبه أن للجودة في هذه الأموال قيمة كما في سائر الأموال ، ألا ترى أن لها قيمة إذا قوبلت بخلاف جنسها ، ولها قيمة في إثبات الخيار لصاحبها عند تفويت الغاصب الجودة ، وما لا يتقوم شرعا .

فالجنس وغير الجنس فيه سواء ، كالخمر والصنعة من الملاهي والمعازف ، ثم وجوب ضمان النقصان لا يؤدي إلى الربا ، فإن حكم الربا يجري بالمقابلة على طريق المعادلة ، وذلك لا يوجد هنا خصوصا على أصله ، فإن ضمان الغصب عنده لا يوجب الملك في المضمون ، ولكنا نقول : لا قيمة للجودة في هذه الأموال منفردة عن الأصل قال صلى الله عليه وسلم : { جيدها ورديئها سواء } يعني في المالية التي ينبني عليها العقد ; لأنه لا يجوز الاعتياض عن هذه الجودة حتى لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة رديئة ودرهم لا يجوز ، وما يكون متقوما شرعا فالاعتياض عنه جائز ، وبهذا فارق حال اختلاف الجنس ، وثبوت الخيار عندنا ليس لفوات الجودة بل للتغير المتمكن بفعله في العين ، وإذا ثبت أنه لا قيمة للجودة منفردة عن الأصل قلنا : لو ضمنه النقصان كان فيه إقرار بجودته عن الأصل ، فأما إذا سلم العين إليه ، فلا يكون فيه إقرار بجودته عن الأصل ، وهي متقومة مع الأصل تبعا ، فلهذا كان له أن يضمنه المثل ، وقول شريح هو دليل له على أن المغصوب يصير ملكا للغاصب عند أداء الضمان كما هو مذهبنا

وذكر عن أبي البحتري أن أعرابيا أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : إن بني عمك عدوا على إبلي فقطعوا ألبانها ، وأكلوا فصلانها فقال له عثمان : رضي الله تعالى عنه إذا نعطيك إبلا مثل إبلك ، وفصلانا مثل [ ص: 53 ] فصلانك ، قال : إذا تنقطع ألبانها ، ويموت فصلانها حتى تبلغ الوادي ، فغمزه بعض القوم بعبد الله بن مسعود رضي الله عنه . فقال : بيني ، وبينك عبد الله ، فقال عثمان : رضي الله عنه نعم ، فقال عبد الله رضي الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطى ثمة إبلا مثل إبله ، وفصلانا مثل فصلانه فرضي عثمان رضي الله عنه بذلك وأعطاه

وبظاهر الحديث يستدل أهل المدينة في أن الحيوان مضمون بالمثل عند الغصب والإتلاف فقد اتفق عليه عثمان وابن مسعود رضي الله عنهما إلا أنا نقول : لم يكن هذا على طريق القضاء بالضمان ، وإنما كان ذلك على سبيل الصلح بالتراضي ; لأن المتلف لم يكن عثمان رضي الله عنه ، ووجوب الضمان على المتلف ، والإنسان غير مؤاخذ بجناية بني عمه إلا أن عثمان رضي الله عنه كان يتبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمه ، ويقول إن قوتهم ونصرتهم بي ، وهذا لأنه كان به فرط الميل إلى أقاربه ، وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين ذكر عثمان رضي الله عنه في الشورى فقال : إنه كلف بأقاربه وكان ذلك ظاهرا منه ; ولهذا جاء الأعرابي يطالبه ، وإنما غمزه بعض القوم بعبد الله رضي الله عنه لما كان بين عثمان رضي الله عنه وبينه من النفرة ، وسبب ذلك معلوم . ثم فيه دليل جواز التحكيم وأن الإمام إذا كان يخاصمه غيره فله أن يحكم برضى الخصم من ينظر بينهما كما فعله عثمان رضي الله عنه . وفيه دليل على أن رد مثل المغصوب أو المستهلك يجب في موضع الغصب والاستهلاك ; لأن ابن مسعود رضي الله عنه حكم بذلك وانقاد له عثمان رضي الله عنه ، وهذا لأن المقصود هو الجبران ، ورفع الخسران عن صاحب المال ، وذلك برد العين عليه في ذلك الموضع وأداء الضمان في ذلك الموضع ; ولهذا قلنا : إن مؤنة الرد تكون على الغاصب .

وذكر عن شريح رحمه الله أن مسلما كسر دنا من خمر لرجل من أهل الذمة فضمنه شريح قيمة الخمر ، وبه نأخذ ، فإن الخمر مال متقوم عندنا في حقهم لتمام إحرازها منهم بحماية الإمام ، فإنهم يعتقدون فيها المالية ، وإنما يكون المال متقوما بالإحراز ، والإمام مأمور بأن يكف عنهم الأيدي المتعرضة لهم في ذلك لمكان عقد الذمة فيتم إحرازها منهم بذلك ، وسنقرر ذلك في موضعه .

( ثم ) فيه دليل أن المسلم يضمن قيمة الخمر للذمي عند الإتلاف دون المثل ; لأن المسلم عاجز عن تمليك الخمر من غيره ، وعند العجز عن رد المثل يكون الواجب هو القيمة ، ولم يذكر تضمين قيمة الدن ; لأن ذلك غير مشكل ، وإنما ذكر الراوي ما هو المشكل ، وهو تضمينه قيمة الخمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية