الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
73 - من .

حرف يأتي لبضعة عشر معنى :

الأول ابتداء الغاية ، إذا كان في مقابلتها إلى التي للانتهاء . وذلك إما في اللفظ ، نحو سرت من البصرة إلى الكوفة ، وقوله تعالى : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ( الإسراء : 1 ) .

وإما في المعنى ، نحو : زيد أفضل من عمرو ، لأن معناه زيادة الفضل على عمرو ، وانتهاؤه في الزيادة إلى زيد . ويكون في المكان اتفاقا ، نحو : من المسجد الحرام . وما نزل منزلته ، نحو من فلان ومنه : إنه من سليمان ( النمل : 30 ) وقولك : ضربت من الصغير إلى الكبير ، إذا أردت البداءة من الصغير والنهاية بالكبير . وفي الزمان عند الكوفيين كقوله تعالى : من أول يوم . وقوله : لله الأمر من قبل ومن بعد ( الروم : 4 ) فإن قبل وبعد ظرفا زمان .

وتأوله مخالفوهم على حذف مضاف ، أي من تأسيس أول يوم ، فـ " من " داخلة في التقدير على التأسيس ، وهو مصدر ، وأما قبل وبعد فليستا ظرفين في الأصل ، وإنما هما صفتان .

الثاني الغاية ، وهي التي تدخل على فعل هو محل لابتداء الغاية وانتهائه معا نحو : [ ص: 356 ] أخذت من التابوت ، فالتابوت محل ابتداء الأخذ وانتهائه ، وكذلك أخذته من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ وانتهائه كذلك . قاله الصفار . وغاير بينه وبين ما قبله ، قال : وزعم بعضهم أنها تكون لانتهاء الغاية ، نحو قولك : رأيت الهلال من داري من خلل السحاب ، فابتداء الرؤية وقع من الدار ، وانتهاؤها من خلل السحاب ، وكذلك شممت الريحان من داري من الطريق ، فابتداء الشم من الدار وانتهاؤه إلى الطريق .

قال : وهذا لا حجة فيه ، بل هما لابتداء الغاية ، فالأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل ، والثانية لابتداء الغاية في حق المفعول ، ونظيره كتاب أبي عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام ، وأبو عبيدة لم يكن وقت كتبه إلى عمر بالشام ، بل الذي كان في الشام عمر ، فقوله بالشام ظرف للفعل بالنسبة إلى المفعول .

قال : وزعم ابن الطراوة أنها إذا كانت لابتداء الغاية في الزمان لزمها إلى الانتهاء فأجاز : سرت من يوم الجمعة إلى يوم الأحد ، لأنك لو لم تذكر لم يدر إلى أين انتهى السير .

قال الصفار : وهذا الذي قاله غير محفوظ من كلامهم ، وإذا أرادت العرب هذا أتت فيه بمذ ومنذ ويكون الانتهاء إلى زمن الإخبار .

الثالث : التبعيض ، ولها علامتان أن يقع البعض موقعها وأن يعم ما قبلها ما بعدها إذا حذفت كقوله تعالى : حتى تنفقوا مما تحبون ( آل عمران : 92 ) ولهذا في مصحف ابن مسعود : بعض ما تحبون . وقوله : منهم من كلم الله ( البقرة : 253 ) .

[ ص: 357 ] وقوله : إني أسكنت من ذريتي ( إبراهيم : 37 ) فإنه كان نزل ببعض ذريته .

الرابع : بيان الجنس . وقيل : إنها لا تنفك عنه مطلقا ، حكاه التراس ، ولها علامتان أن يصح وضع الذي موضعها ، وأن يصح وقوعها صفة لما قبلها .

وقيل : هي أن تذكر شيئا تحته أجناس ، والمراد أحدها ، فإذا أردت واحدا منها بينته ، كقوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( الحج : 30 ) فالرجس يشمل الأوثان وغيرها ، فلما اقتصر عليه لم يعلم المراد ، فلما صرح بذكر الأوثان علم أنها المراد من الجنس ، وقرنت بمن للبيان ، فلذلك قيل : إنها للجنس ، وأما اجتناب غيرها فمستفاد من دليل آخر ، والتقدير : واجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، أي اجتنبوا الرجس الوثني ، فهي راجعة إلى معنى الصفة .

وهي بعكس التي للتبعيض ، فإن تلك يكون ما قبلها بعضا مما بعدها . فإذا قلت : أخذت درهما من الدراهم كان الدرهم بعض الدراهم . وهذه ما بعدها بعض مما قبلها ، ألا ترى أن الأوثان بعض الرجس . ومنه قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ( النور : 55 ) أي الذين هم أنتم ، لأن الخطاب للمؤمنين ، فلهذا لم يتصور فيها التبعيض .

وقد اجتمعت المعاني الثلاثة في قوله تعالى : وينزل من السماء من جبال فيها من برد ( النور : 43 ) فـ " من " الأولى لابتداء الغاية ، أي ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض ، أي بعض جبال منها ، والثالثة لبيان الجنس ، لأن الجبال تكون بردا وغير برد .

ونظيرها : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ( البقرة : 105 ) فالأولى للبيان ، لأن الكافرين نوعان : كتابيون ومشركون ، والثانية مزيدة لدخولها على نكرة منفية ، والثالثة لابتداء الغاية .

وقوله : تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ( الكهف : 31 ) [ ص: 358 ] فالأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الجنس ، أو زائدة بدليل قوله : وحلوا أساور من فضة ( الإنسان : 21 ) والثالثة لبيان الجنس أو التبعيض .

وقد أنكر القوم من متأخري المغاربة بيان الجنس ، وقالوا : هي في الآية الشريفة لابتداء الغاية ، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها ، فإذا قيل من الأوثان ، فمعناه الابتداء من هذا الصنف ، لأن الرجس ليس هو ذاتها ، فمن في هذه الآية كهي في : أخذته من التابوت .

وقيل : للتبعيض لأن الرجس منها هو عبادتها واختاره ابن أبي الربيع ، ويؤيده قوله : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ( الزمر : 17 ) .

وأما قوله : منكم فهي للتبعيض ، ويقدر الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم .

وأما قوله : ( من جبال ) فهو بدل من السماء ، لأن السماء مشتملة على جبال البرد ، فكأنه قال : وينزل من برد في السماء ، وهو من قبيل ما أعيد فيه العامل مع البدل ، كقوله : للذين استضعفوا لمن آمن منهم ( الأعراف : 75 ) .

وأما قوله : ويلبسون ثيابا خضرا من سندس ( الكهف : 31 ) ففي موضع الصفة ، فهي للتبعيض .

وكثيرا ما تقع بعد ما ومهما لإفراط إبهامهما ، نحو : ما يفتح الله للناس من رحمة ( فاطر : 2 ) ما ننسخ من آية ( البقرة : 106 ) مهما تأتنا به من آية ( الأعراف : 132 ) وهي ومخفوضها في موضع نصب على الحال .

وقد تقع بعد غيرهما : يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ( الكهف : 31 ) الشاهد في غير الأولى ، فإن تلك للابتداء . وقيل زائدة .

[ ص: 359 ] الخامس : التعليل ويقدر بلام ، نحو : مما خطيئاتهم أغرقوا ( نوح : 25 ) وقوله : أطعمهم من جوع ( قريش : 4 ) أي من أجل الجوع .

ورده الأبذي بأن الذي فهم منه العلة إنما هو لأجل المراد ، وإنما هي للابتداء ، أي ابتداء الإطعام من أجل الجوع .

السادس : البدل من حيث العوض عنه ، فهو كالسبب في حصول العوض ، فكأنه منه أتى ، نحو قوله تعالى : لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ( الزخرف : 60 ) ، لأن الملائكة لا تكون من الإنس . وقوله : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ( التوبة : 38 ) أي بدلا من الآخرة ، ومحلها مع مجرورها النصب على الحال . وقوله : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ( آل عمران : 116 ) أي بدل طاعة الله أو رحمة الله . وقوله : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن ( الأنبياء : 42 ) أي بدل الرحمن .

السابع : بمعنى " على " ، نحو : ونصرناه من القوم ( الأنبياء : 77 ) أي على القوم ، وقيل : على التضمين أي منعناه منهم بالنصر .

الثامن : بمعنى عن ، نحو : فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ( الزمر : 22 ) ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا ( الأنبياء : 97 ) وقيل : هي للابتداء فيهما .

وقوله : أطعمهم من جوع ( قريش : 4 ) فقد أشار سيبويه إلى أن من هنا تؤدي معنى عن . وقيل : هي بمنزلة اللام للعلة ، أي لأجل الجوع . وليس بشيء ، فإن [ ص: 360 ] الذي فهم منه العلة إنما هو " أجل " لا " من " . واختار الصفار أنها لابتداء الغاية . وكأنه قال : ابتداء فعلي لسبب كذا أي ابتداء الطعم من أجل الجوع ، فكان الجوع ابتداء وقوع سبب الجوع

التاسع : بمعنى الباء ، نحو : ينظرون من طرف خفي ( الشورى : 45 ) حكاه البغوي عن يونس . وقيل إنما قال : من طرف لأنه لا يصح عنه ، وإنما نظره ببعضها .

وجعل منه ابن أبان يحفظونه من أمر الله ( الرعد : 11 ) أي بأمر الله . وقوله : من كل أمر سلام ( القدر : 4 - 5 ) .

العاشر بمعنى " في " ، نحو : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( الجمعة : 9 ) . أروني ماذا خلقوا من الأرض ( فاطر : 40 ) . وقيل : لبيان الجنس .

الحادي عشر : بمعنى " عند " ، نحو : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله ( آل عمران : 10 ) قاله أبو عبيدة ، وقيل إنها للبدل .

الثاني عشر : بمعنى الفصل وهي الداخلة بين المتضادين ، نحو : والله يعلم المفسد من المصلح ( البقرة : 220 ) حتى يميز الخبيث من الطيب ( آل عمران : 179 ) .

[ ص: 361 ] الثالث عشر : الزائدة ، ولها شرطان عند البصريين : أن تدخل على نكرة ، وأن يكون الكلام نفيا ، نحو ما كان من رجل . أو نهيا نحو لا تضرب من رجل ، أو استفهاما ، نحو : هل جاءك من رجل ؟

وأجرى بعضهم الشرط مجرى النفي ، نحو : إن قام رجل قام عمرو . وقال الصفار : الصحيح المنع .

ولها في النفي معنيان :

أحدهما : أن تكون للتنصيص على العموم ، وهي الداخلة على ما لا يفيد العموم ، نحو : ما جاءني من رجل ، فإنه قبل دخولها يحتمل نفي الجنس ونفي الوحدة ، فإذا دخلت من تعين نفي الجنس ، وعليه قوله تعالى : وما من إله إلا إله واحد ( المائدة : 73 ) . وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ( الأنعام : 59 ) . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( الملك : 3 ) .

وثانيهما : لتوكيد العموم وهي الداخلة على الصيغة المستعملة في العموم ، نحو ما جاءني من أحد ، أو من ديار ، لأنك لو أسقطت من لبقي العموم على حاله ، لأن أحدا لا يستعمل إلا للعموم في النفي .

وما ذكرناه من تغاير المعنيين خلاف ما نص عليه سيبويه من تساويهما .

قال الصفار : وهو الصحيح عندي وأنها مؤكدة في الموضعين ، فإنها لم تدخل على : " جاءني رجل " إلا وهو يراد به " ما جاءني أحد " لأنه قد ثبت فيها تأكيد الاستغراق مع أحد ، ولم يثبت لها الاستغراق ، فيحمل هذا عليه ، فلهذا كان مذهب سيبويه أولى .

قال : وأشار إلى أن المؤكدة ترجع لمعنى التبعيض ، فإذا قلت : ما جاءني من رجل فكأنه قال : ما أتاني بعض هذا الجنس ولا كله ، وكذا ما أتاني من أحد ، أي بعض من الأحدين . انتهى .

[ ص: 362 ] وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : نص الأستاذ سيبويه على أنها نص في العموم ، قال : فإذا قلت : ما أتاني رجل ، فإنه يحتمل ثلاثة معان .

أحدها : [ أن ] تريد ما أتاك من رجل في قوته ونفاذه ، بل أتاك الضعفاء .

الثاني : أن تريد أنه ما أتاك رجل واحد بل أكثر من واحد .

والثالث : أن تريد ما أتاك رجل واحد ، ولا أكثر من ذلك .

فإن قلت : ما أتاني من رجل ، كان نفيا لذلك كله ، قال : هذا معنى كلامه .

والحاصل أن من في سياق النفي تعم وتستغرق .

ويلتحق بالنفي الاستفهام ، كقوله تعالى : هل ترى من فطور ( الملك : 3 ) .

وجوز الأخفش زيادتها في الإثبات ، كقوله : ويكفر عنكم من سيئاتكم ( البقرة : 271 ) ، يغفر لكم من ذنوبكم ( نوح : 4 ) والمراد الجميع ، بدليل : إن الله يغفر الذنوب جميعا ( الزمر : 53 ) فوجب حمل الأول على الزيادة دفعا للتعارض .

وقد نوزع في ذلك بأنه إنما يقع التعارض لو كانتا في حق قبيل واحد ، وليس كذلك فإن الآية التي فيها " من " لقوم نوح ، والأخرى لهذه الأمة .

فإن قيل : فإذا غفر للبعض كان البعض الآخر معاقبا عليه ، فلا يحصل كمال الترغيب في الإيمان ، إلا بغفران الجميع .

[ ص: 363 ] وأيضا فكيف يحسن التبعيض فيها مع أن الإسلام يجب ما قبله ، فيصح قول الأخفش ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أن المراد بغفران بعض الذنوب في الدنيا ، لأن إغراق قوم نوح عذاب لهم ، وذلك إنما كان في الدنيا مضافا إلى عذاب الآخرة ، فلو آمنوا لغفر لهم من الذنوب ما استحقوا به الإغراق في الدنيا ، وأما غفران الذنب بالإيمان في الآخرة فمعلوم .

والثاني : أن الكافر إذا آمن فقد بقي عليه ذنوب وهي مظالم العباد ، فثبت التبعيض بالنسبة للكافر .

الثالث : أن قوله : " ذنوبكم " يشمل الماضية والمستقبلة ، فإن الإضافة تفيد العموم ، فقيل : " من " لتفيد أن المغفور الماضي ، وعدم إطماعهم في غفران المستقبل بمجرد الإسلام حتى يجتنبوا المنهيات .

وقيل : [ إنها ] لابتداء الغاية وهو حسن ، لقوله : يغفر لهم ما قد سلف ( الأنفال : 38 ) وسيبويه يقدر في نحو ذلك مفعولا محذوفا ، أي يغفر لكم بعضا من ذنوبكم محافظة على معنى التبعيض .

وقيل : بل الحذف للتفخيم ، والتقدير : يغفر لكم من ذنوبكم ما لو كشف لكم عن كنهه لاستعظمتم ذلك ، والشيء إذا أرادوا تفخيمه أبهموه كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم ( طه : 78 ) أي أمر عظيم .

وقال الصفار : من للتبعيض على بابها ، وذلك أن " غفر " تتعدى لمفعولين :

أحدهما : باللام ، فالأخفش يجعل المفعول المصرح الذنوب وهو المفعول الثاني ، فتكون " من " زائدة ، ونحن نجعل المفعول محذوفا ، وقامت " من ذنوبكم " [ ص: 364 ] مقامه ، أي جملة من ذنوبكم ، وذلك أن المغفور لهم بالإسلام ما اكتسبوه في حال الكفر لا في حال الإسلام ، والذي اكتسبوه في حال الكفر بعض ذنوبهم لا جميعها .

وأما قوله في آية الصدقة : ويكفر عنكم من سيئاتكم ( البقرة : 271 ) فللتبعيض ، لأن أخذ الصدقة لا يمحو كل السيئات .

ومما احتج به الأخفش أيضا قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ( النور : 30 ) أي أبصارهم ، وقوله : ولهم فيها من كل الثمرات ( محمد : 15 ) أي كل الثمرات . وقوله : ولقد جاءك من نبإ المرسلين ( الأنعام : 34 ) .

وهذا ضعيف أيضا ، بل هي في الأول للتبعيض ، لأن النظر قد يكون عن تعمد وعن غير تعمد ، والنهي إنما يقع على نظر العمد فقط ، ولهذا عطف عليه قوله : ويحفظوا فروجهم ( النور : 30 ) من غير إعادة " من " ، لأن حفظ الفروج واجب مطلقا ، ولأنه يمكن التحرز منه ، ولا يمكن في النظر لجواز وقوعه اتفاقا ، وقد يباح للخطبة وللتعليم ونحوهما .

وأما الثانية ، فإن الله تعالى وعد أهل الجنة أن يكون لهم فيها كل نوع من أجناس الثمار مقدار ما يحتاجون إليه وزيادة ، ولم يجعل جميع الذي خلقه الله من الثمار عندهم ، بل عند كل منهم من الثمرات ما يكفيه وزيادة على كفايته ، وليس المعنى على أن جميع الجنس عندهم حتى لم تبق معه بقية ، لأن في ذلك وصف ما عند الله بالتناهي .

وأما الثالثة : فللتبعيض بدليل قوله : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ( النساء : 164 ) .

[ ص: 365 ] ( لطيفة ) : إنها حيث وقعت في خطاب المؤمنين لم تذكر كقوله في سورة الصف : ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( الآية : 10 ) إلى قوله : يغفر لكم ذنوبكم ( الآية : 12 ) .

وقوله في سورة الأحزاب : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ( الآية : 70 ) إلى قوله : يغفر لكم ذنوبكم ( الآية : 71 ) .

وقال في خطاب الكفار في سورة نوح : يغفر لكم من ذنوبكم ( الآية : 4 ) . وفي سورة الأحقاف : ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ( الآية : 31 ) وما ذاك إلا للتفرقة بين الخطابين ، لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد ، ولهذا إنه في سورة نوح والأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان ، لا مطلقا ، وهو غفران ما بينه وبينهم ، لا مظالم العباد .

الرابع عشر : الملابسة كقوله تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ( التوبة : 67 ) أي يلابس بعضهم بعضا ويواليه ، وليس المعنى على النسل والولادة ؛ لأنه قد يكون من نسل المنافق مؤمن وعكسه . ونظيره قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ( التوبة : 71 ) . وكذا قوله : ذرية بعضها من بعض ( آل عمران : 34 ) . كما يتبرأ الكفار كقوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ( البقرة : 166 ) .

فأما قوله : والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ( النساء : 25 ) أي بعضكم يلابس بعضا ويواليه في ظاهر الحكم ، من حيث يشملكم الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية