الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(ثم قال) : والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة.

(ثم قال بعد استدلال وتنفير عن هذا الفعل وتقبيحه) :

القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجر تبع، جاز أن يؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث.

وصاحب هذا القول يجوز من بيع الثمر قبل بدو الصلاح ما يدخل ضمنا وتبعا، كما جاز إذا ابتاع نخلة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمبتاع هنا قد اشترى الثمر قبل بدو صلاحه لكن تبعا للأصل، وهذا جائز باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع.

والقول الثالث: إنه يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وأخذ القبالة فوفى بها دينه. روى ذلك حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله " المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يغلب عليها الشجر. [ ص: 409 ]

قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها الشجر والنخل.

وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلاف الإجماع. وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر، كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره ما فعله في متعة الحج. وإنما هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها في مرض موته، وأمثال هذه القضية.

والذي فعله عمر بن الخطاب هو الصواب، أو إذا تدبر الفقيه أصول الشريعة، تبين له أن مثل هذا الضمان ليس داخلا فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يظهر بأمور:

أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة، ويمكن فيها بيع حبها قبل أن يشتد، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع الحب حتى يشتد لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصود [ ص: 410 ] المستأجر هو الحب فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب، بخلاف المشتري، فإنه يشتري حبا مجردا، وعلى البائع تمام خدمته حتى يستحصد.

وكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود ، ليس نهيا عن أن يأخذ الشجر، فيقوم عليها ويسقيها حتى تثمر، وإنما النهي لمن اشترى عنبا مجردا، وعلى البائع خدمته حتى يكتمل صلاحه، كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمى الكروم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها، بخلاف التضمين.

الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضا عند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعد وغيرهم من الأئمة جائز، كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة من بعده.

والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفة طرد قياسه، فلم يجوزها بحال.

وأما الشافعي فاستثنى ما تدعو إليه الحاجة، كالبياض إذا دخل تبعا للشجر في المساقاة. وكذلك مالك، لكن راعى القلة والكثرة على أصله.

وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس، ظنا أنها من [ ص: 411 ] باب الإجارة بعوض مجهول، وأنها جوزت للحاجة لأن صاحب النقد لا يمكن إجارته.

التالي السابق


الخدمات العلمية