الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما حكم الشرط في هدنة من بعده من أئمة الأعصار ، فلا يجوز أن يهادنوا على رد من أسلم من نسائهم بحال ، ولئن فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قدمناه من الاختلاف في هدنته ، فقد كان قبل استقرار الشرط في حظر الرد ، وقد استقر منه ما لا يجوز خلافه .

                                                                                                                                            فأما اشتراط رد من أسلم من الرجال ، فمعتبر بأحوالهم عند قومهم ، وفي عشائرهم إذا رجعوا إليهم ، فإن كانوا مستذلين فيهم ، ليس لهم عشيرة تكف الأذى عنهم ، وطلبوهم ليعذبوهم ، ويفتنوهم عن دينهم ، كما كانت قريش تعذب بلالا . وعمارا وغيرهما من المستضعفين بمكة ، لم يجز ردهم عليهم ، وكان الشرط في ردهم باطلا ، كما بطل في رد النساء حقنا لدمائهم ، وكفا عن تعذيبهم واستذلالهم ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله حرم من المسلم ماله ودمه ، وأن لا يظن به إلا خيرا ، ولأنه لما وجب على الإمام فك الأسير المسلم وجب أن لا يكون عونا على أسر مسلم .

                                                                                                                                            فأما من كان في عز من قومه ، ومنعة من عشيرته قد أمن أن يفتن عن دينه أو يستذله مستطيل عليه ، جاز رده عليه ، وصحت الهدنة باشتراط رده .

                                                                                                                                            قد رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هدنة الحديبية أبا جندل بن سهيل بن عمرو على أبيه ، ورد عياش بن أبي ربيعة على أهله ، ورد أبا بصير على أبيه : ولأنهم كانوا ذوي عشيرة ، وطلبهم أهلوهم إشفاقا عليهم ، وفادى العقيلي بعد إسلامه برجلين من المسلمين كانا أسيرين في قومه ، لقوة عشيرته فيهم .

                                                                                                                                            وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد مراسلة قريش بالحديبية ، فعرض على أبي بكر أن يتوجه إليهم ، فقال إني قليل العشيرة بمكة ، ولا آمنهم على نفسي ، فعرض على عمر ، فقال مثل ( ذلك ) فقال لعثمان : أنت كثير العشيرة بمكة ، فوجهه إليهم ، فلما توجه فلقوه بالإكرام وقالوا له : طف بالبيت وتحلل من إحرامك ، فقال : لا أطوف بالبيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - محصور عن الطواف ، فانقلبوا عليه ، حتى بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل ، [ ص: 361 ] فبايع أصحابه من أجله بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فدل هذا على الفرق بين ذي العشيرة المانعة وبين غيره في الرد .

                                                                                                                                            ومثله ما قلناه : في وجوب الهجرة على من أسلم في دار الحرب إن كان ممتنعا بعشيرته إذا أظهر إسلامه لم تجب عليه الهجرة ، وإن كان مستضعفا وجبت عليه الهجرة ، فصار الرد مقصورا على طائفة واحدة ، وهي الممتنعة بيوتها لقوتها ومنع الرد مشتملا على طائفتين :

                                                                                                                                            أحدهما : جميع النساء من الممتنعات ، والمستضعفات .

                                                                                                                                            والثاني : المستضعفون من الرجال ، وكذلك الصبيان إذا وصفوا الإسلام عند المراهقة ممنوعون من الرد ، وإن كانوا ممتنعين لأنهم قد يفتنون عن دينهم . نص عليه الشافعي ، فجعل أبو علي بن أبي هريرة هذا دليلا على صحة إسلامه قبل بلوغه ، وذهب جميع أصحاب الشافعي ، وهو ظاهر مذهبه ، ومنصوصه في سائر كتبه أن إسلامه لا يصح قبل بلوغه ، وإنما منع من رده استظهارا لدينه حتى يتحقق ما هو عليه بعد بلوغه .

                                                                                                                                            فإن وصف الإسلام رد إن كان ممتنعا ، ولم يرد إن كان مستضعفا ، وإن وصف الكفر حمل على هدنة قومه .

                                                                                                                                            فلو شرط في الهدنة رد من أسلم مطلقا من غير تفصيل بطلت : لأن إطلاقه يقتضي عموم الرد ممن يجوز أن يرد ، وممن لا يجوز أن يخص عمومه بالعرف فيمن يجوز رده .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية