الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

وأما النباتات التي لها رائحة طيبة ولا يتطيب بها فقسمها أصحابنا قسمين ؛ أحدهما : ما يقصد طعمه دون ريحه بحيث يزرعه الناس لغير الريح ، كالفواكه التي لها رائحة طيبة مثل الأترج ، والتفاح ، والسفرجل ، والخوخ ، والبطيخ ونحو ذلك فهذا لا بأس بشمه ولا فدية فيه . وفيه نظر : فإن كلاهما مقصود .

وكذلك ما نبت بنفسه مما له رائحة طيبة وهي أنبتة البرية مثل الشيح [ ص: 91 ] والقيصوم والإذخر والعبوثران ونحو ذلك ، فهذا لا بأس بشمه فيما ذكره أصحابنا .

والثاني : ما يستنبت لذلك وهو الريحان : ففيه عن أحمد روايتان : -

إحداهما : أنه لا بأس به ؛ قال - في رواية جعفر بن محمد - : المحرم يشم الريحان ليس هو من الطيب ، ورخص فيه ، وكذلك نقل ابن منصور عنه في المحرم يشم الريحان وينظر في المرآة . وهذا اختيار القاضي وأصحابه .

قال ابن أبي موسى : وله أن يأكل الأترج والتفاح والموز والبطيخ وما في معنى ذلك ، ولم يتعرض لشمه ، قال : ولا بأس بنبات الأرض مما لا يتخذ طيبا .

والثانية : المنع منه قال - في رواية أبي طالب والأثرم - : لا يشم المحرم [ ص: 92 ] الريحان ، كرهه ابن عمر ليس هو من آلة المحرم . وعلى هذه الرواية هو حرام فيه الفدية عند كثير من أصحابنا .

قال ابن أبي موسى : لا يشم الريحان في إحدى الروايتين ؛ لأنه من الطيب وإن فعل افتدى .

قال القاضي : ويحتمل أن يكون المذهب رواية واحدة لا كفارة عليه ، ويكون قوله : ليس من آلة المحرم على طريق الكراهة ، وقد نص أحمد على أنه مكروه في رواية حرب قال : قلت لأحمد : فالمحرم يشم الريحان ؟ قال : يتوقاه أحب إلي ، قلت : فالطيب ؟ قال : أما الطيب فلا يقربه ، والريحان ليس مثل الطيب ، قلت : فيشرب دواء ؟ قال : لا بأس إذا لم يكن فيه طيب .

وذلك لأنه ذو رائحة طيبة يتخذ لها فحرم شمه كالمسك وغيره ، بل أولى لأن المسك ونحوه يتطيب به بجعله في البدن والثوب ، وأما هذا : فإنما منفعته شمه مع انفصاله إذ لا يعلق بالبدن والثوب ، وفيه من الاستمتاع والترفه ما قد يزيد على شم الزعفران والورس . ولأن الورس والزعفران من جملة النباتات وإن تطيب بها ، وقد جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - طيبا ، فألحقت سائر النباتات به .

وقد روى الشافعي ، عن جابر : "أنه سئل : أيشم المحرم الريحان والدهن والطيب ؟ فقال : لا " وروى الأثرم عن عمر : أنه كان يكره شم الريحان للمحرم .

[ ص: 93 ] ووجه الأول : أنه لا يتطيب به فعلا ، فلم يكره شمه كالفاكهة والنبات البري ، وذلك لأنه لو كان نفس اشتمام الريح مكروها لم يفرق بين ما ينبته الله ، أو ينبته الآدميون ، ولا بين ما يقصد به الريح والطعم ، أو يقصد به الريح فقط . فعلى هذا لا فرق بين ما يتخذ منه الطيب كالورد والبنفسج والنيلوفر والياسمين والخيري وهو المنثور ، وما لا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي وهو الأخضر والنمام والبرم والنرجس والمرزنجوس . هذه طريقة ابن حامد والقاضي في خلافه وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم ؛ لعموم كلام أحمد .

وقال القاضي - في المجرد - وغيره : ما يتخذه منه مما يستنبت للطيب [ ص: 94 ] كالورد والبنفسج والياسمين - فإنه يتخذ منه الزئبق والخيري وهو المنثور والنيلوفر - : فهو طيب كالورس والزعفران والكافور والعنبر ، فإنه يقال هو ثمر شجري ، فإذا شم الورد أو دهنه أو ما خالطه وكان ظاهرا فيه : ففيه الفدية .

وأما ما يستنبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي والنرجس والمرزنجوس : ففيه الروايتان المتقدم ذكرهما ؛ وذلك لأنه إذا اتخذ منه الطيب : فهو ذو رائحة طيبة يتطيب : فيكون طيبا كغيره ؛ لأن كونه نباتا لا يخرجه عن أن يكون طيبا بدليل الورس والزعفران .

ومن قال بالطريقة الأولى قال : هذا لا يتطيب بنفسه ، وإنما يتطيب بما يؤخذ منه بخلاف الزعفران ونحوه . ولا يلزم من كون فرعه طيبا أن يكون هو طيبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية