الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( رجل ) غصب عبدا أو دابة فأجره ، وأصاب من غلته فالغلة للغاصب ; لأن وجوبها بعقده ، وقد بيناه في كتاب اللقطة ، ولأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد ، والعاقد هو الغاصب ، فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده مالا فكان بدله له . وفي الأصل قال : قلت : ولم لا يكون لصاحب العبد . ؟ قال : لأنه كان في ضمان غيره ، وكأنه أشار بهذا التعليل إلى قوله صلى الله عليه وسلم : { الخراج بالضمان } فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الأجر له دون المالك ، ويؤمر أن يتصدق بها ; لأنها حصلت له بكسب خبيث ، فإن مات العبد فالغاصب ضامن بقيمته ، وله أن يستعين بتلك الغلة في ضمان القيمة ; لأنها ملكه ، وما فضل بعد ذلك تصدق به اعتبارا للجزء بالكل .

( فإن قيل : ) القيمة دين في ذمته ، ومن قضى بمال الصدقة دينه فعليه أن يتصدق بمثله ( قلنا : ) نعم ، ولكن التصدق بهذا لم يكن حتما عليه ، ألا ترى أنه لو سلم الغلة إلى المالك مع العبد كان للمالك أن يتناول ذلك ، وليس على الغاصب شيء آخر فهو بما صنع يصير مسلما إلى المالك ، ثم يصير المالك مبرئا له عن ذلك القدر من القيمة بما يقبضه فيزول الخبث بهذا الطريق ، فلا يلزمه التصدق بعوضه ، وإن كان الغاصب باع الدابة وأخذ ثمنها فاستهلكه ، وماتت الدابة عند المشتري فضمن رب الدابة المشتري قيمتها رجع المشتري على الغاصب بالثمن لبطلان البيع باسترداد القيمة منه ، ثم لا يستعين الغاصب بالغلة في أداء الثمن ; لأن الخبث في الغلة ما كان بحق المشتري ، فلا يزول بالوصول إلى يده ، بخلاف الأول فإن الخبث لحق المالك فيزول بوصول الغلة إلى يده ( قال : ) إلا أن يكون عند الغاصب ما يؤدي به الثمن ، فلا بأس حينئذ أن يؤدي من الغلة ; لأنه محتاج إلى تفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس ، وحاجته تقدم على حق الفقراء ، فإذا أصاب بعد ذلك مالا تصدق بمثله إن كان استهلك الثمن يوم استهلكه وهو غني عنه ، وإن كان محتاجا يوم استهلك الثمن لم يكن عليه أن يتصدق بشيء من ذلك ; لأن وجوب الضمان عليه باعتبار استهلاكه الثمن ، ولو استهلك الغلة مكان الثمن ، فإن كان محتاجا فليس عليه أن يتصدق بشيء منه ، وإن كان غنيا فعليه أن يتصدق بمثله فكذلك في استهلاك الثمن ، وإنما قلنا : ذلك ; لأن حق الفقراء في هذا المال بمنزلة حقهم في اللقطة على معنى أن له أن يتصدق ، وله أن يردها على المالك إن شاء . ( ثم ) الملتقط إذا كان محتاجا فله أن يصرف اللقطة إلى حاجة نفسه بخلاف ما إذا كان غنيا فكذلك حكم هذه الغلة .

وليس على [ ص: 78 ] الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر ، وعلل فقال : ( لأنه كان ضامنا ) ، ومعنى هذا أن ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم ، والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه ; ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته ، فإذا اعتبرت المنفعة لإيجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لإيجاب ضمانها مقصودا ، والمنفعة كالكسب ، وقد بينا في الكسب أن الخراج بالضمان فكذلك في المنفعة ، ولكن هذا التعليل يتقاعد في الدار ، فإن الساكن غير ضامن للدار عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله . والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم ، فإن المنافع زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا ، وقد بينا أن زوائد المغصوب لا يكون مضمونا على الغاصب عندنا ، ويكون مضمونا له عند الشافعي رضي الله عنه فكذلك المنفعة ، ولأن الغصب الموجب للضمان عنده يحصل بإثبات اليد ، واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين ، وعندنا لا تتحقق إلا بيد مفوتة ليد المالك ، وذلك لا يتحقق في المنافع ; لأنها لا تبقى وقتين ، فلا يتصور كونها في يد المالك ، ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يده مفوتة ليد المالك فلهذا لا يضمن المنافع بالغصب عندنا .

فأما الإتلاف فيقول : عندنا المنافع لا تضمن بالإتلاف بغير عقد ولا شبهة عقد ، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تضمن ، ومنفعة الحر في ذلك سواء حتى لو استسخر حرا واستعمله عنده يضمن أجر مثله ، وعندنا يأثم ، ويؤدب على ما صنع ، ولكنه لا يضمن شيئا .

وجه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المنفعة مال متقوم فيضمن بالإتلاف كالعين ، وبيان الوصف أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا ، والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة ، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول ، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها ، فإن أعظم الناس تجارة الباعة ، ورأس مالهم المنفعة ، وقد يستأجر المرء جملة ويؤجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا ، وولي الصبي يستأجر له بماله فيصح منه ، وبهذا تبين أن المنافع في المالية مثل الأعيان ، والمنفعة تصلح أن تكون صداقا ، وشرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا ، وهكذا يقوله في منافع الحر أنه مال يضمن بالإتلاف إلا أنه إذا حبس حرا لا يضمن منافعه ; لأنه لم يوجد من الحابس إتلاف منافعه ، ولا إثبات يده عليه بل منافع المحبوس في يده كثياب بدنه ، وكما لا يضمن ثياب بدنه بالحبس فكذلك منافعه ، ولئن لم تكن المنفعة مالا فهي متقومة ; لأنها تقوم الأعيان فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها ، ولأنها تملك بالعقد ، ويضمن به صحيحا كان العقد أو فاسدا ، وإنما يملك بالعقد [ ص: 79 ] ما هو متقوم فيضمن بالإتلاف ، وإن لم يكن مالا كالنفوس والأبضاع ، وبفضل العقد الفاسد يتبين المماثلة بين العين والمنفعة في المالية ; لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعا كما بالإتلاف ، وهذا بخلاف رائحة المسك ، فإن من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئا ; لأن الرائحة ليست بمنفعة ، ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب ; ولهذا لا يملك بعقد الإجارة حتى لو استأجر مسكا ليشمه لا يجوز ، ولا يضمن بالعقد أيضا صحيحا كان أو فاسدا . وحجتنا في ذلك حديث عمر وعلي رضي الله عنهما ، فإنهما حكما في ولد المغرور أنه حر بالقيمة ، وأوجبا على المغرور رد الجارية مع عقرها ولم يوجبا قيمة الخدمة مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها ، ومع طلب المدعي بجميع حقه ، فلو كان ذلك واجبا له لما حل لهما السكوت عن بيانه ، وبيان العقر منهما لا يكون بيانا لقيمة الخدمة ; لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين ; ولهذا يتقوم عند الشبهة بخلاف المنفعة ، والمعنى فيه أن المنفعة ليست بمال متقوم ، فلا تضمن بالإتلاف كالخمر والميتة .

وبيانه أن صفة المالية للشيء إنما تثبت بالتمول ، والتمول صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة ، والمنافع لا تبقى وقتين ، ولكنها أعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى ، فلا يتصور فيها التمول ; ولهذا لا يتقوم في حق الغرماء والورثة حتى أن المريض إذا أعان إنسانا بيديه أو أعاره شيئا فانتفع به لا يعتبر خروج تلك المنفعة من الثلث ، وهذا لأن المتقوم لا يسبق الوجود ، فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء ، وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز ، والإحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقى وقتين فكيف يكون متقوما ، وعلى هذا نقول : الإتلاف لا يتصور في المنفعة أيضا ; لأن فعل الإتلاف لا يحل المعدوم . وبعد الوجود لا يبقى لحله فعل الإتلاف ، وإثبات الحكم بدون تحقق السبب لا يجوز ، فأما بالعقد يثبت للمنفعة حكم الإحراز ، والتقوم شرعا بخلاف القياس ، وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة ، ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة ، وباعتبارها ينعدم التقوم والإتلاف ، وفي الصداق واستئجار الولي إنما يظهر حكم الإحراز والتقوم بالعقد للحاجة ، والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز ، وكما تتفاوت قيمة العين بتفاوت المنفعة تتفاوت قيمة الطيب بتفاوت الرائحة ، ولم يدل ذلك على كونه مالا متقوما ، ولئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم فهو دون الأعيان في المالية ، وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص ، ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة ، والدين لا يضمن [ ص: 80 ] بالعين ; لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين ، وبيان هذا الكلام أن المنفعة عرض يقوم بالعين ، والعين جوهر يقوم به العرض ، ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما ، والمنافع لا تبقى وقتين ، والعين تبقى أوقاتا ، وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم ، والعين لا تضمن بالمنفعة قط ، ومن ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له أيضا ، والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان واحد على تقطيع واحد لا تكون منفعة إحداهما مثلا للمنفعة الأخرى عند الإتلاف .

والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة ، وبهذا فارق ضمان العقد ، فإنه غير مبني على المماثلة باعتبار الأصل بل على المراضاة ، وكيف ينبني على المماثلة ، والمقصود بالعقد طلب الربح . ( ثم ) ضمان العقد مشروع ، وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان ; ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط اعتبار التفاوت الذي ليس في وسعنا الاحتراز عنه في ضمان العقد ، فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع ، وضمانه مقدر بالمثل بالنص ، فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف .

( فإن قيل : ) يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن إتلاف منافع أموال الناس ، ولأن المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت ، ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم من أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن الصفة ، ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية ، وإذا لم يكن بد من إهدار أحدهما فإهدار الصفة أولى من إهدار الأصل ( قلنا : ) قد أوجبنا للزجر التعزير والحبس ، فأما وجوب الضمان للجبران ، فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه ، والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة ماله ، ولو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلما مضافا إلى الشرع ; لأن الموجب هو الشرع ، وذلك لا يجوز ، وإذا لم يوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا ، وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل ، وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة . ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلا ، فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية