الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( السادس ) اقتضى كلام ابن شاس وابن الحاجب أن توكيل المحجور وتوكله غير جائز وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف هنا وفي ذلك اضطراب ، فإنهم أجازوا له التوكيل في بعض الصور بل أخذ بجواز توكيله مطلقا كما سيأتي وفي توكيله خلاف ، وظاهر المدونة جوازه [ ص: 120 ] كما سيأتي قال في التوضيح في باب الوكالة في كلام ابن الحاجب المتقدم : وعلى هذا فيجوز للمحجور عليها أن توكل في لوازم عصمتها انتهى .

                                                                                                                            بل ليس لوليها قيام في ذلك إلا بتوكيل منها قال ابن فرحون في تقسيم المدعى عليهم : وليس للأب ولا للوصي القيام عمن في نظرهما من ابنة ، أو يتيمة إذا أضر بها زوجها في نفسها إلا بتوكيلها ثم قال : وإذا أقامت سبع سنين ثم أراد أبوها أن يطالب زوجها بالكالئ ، أو غيره من حقوقها لم يكن له ذلك إلا بتوكيلها إلا أن يتصل سفهها انتهى .

                                                                                                                            وفي هذا الأخير خلاف انظره في باب الصداق ، وقال في اللباب ويصح التوكيل من المحجور على الخصومة ، وللوصي أن يوكل في حق محجوره من يطلب حقوقه ولا يجعل له الإقرار ولا يشترط في الوكيل أن يكون رشيدا انتهى .

                                                                                                                            وقال في معين الحكام في باب الوصايا وما يتعلق بها : مسألة يجوز للمحجور طلب حقوقه عند قاض ، أو غيره ، ولا يمنع من ذلك في حضور وصيه ، أو غيبته قال أبو بكر وله أن يوكل على ذلك ليعلم ما يتوجه إليه وخالفه غيره في ذلك انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عرفة إثر كلامه المتقدم الذي نقله عن ابن شاس وهو قوله : من جاز تصرفه لنفسه جاز توكيله ، ومن جاز تصرفه لنفسه جاز كونه وكيلا إلا لمانع ومسائل المذهب واضحة به وبامتناع توكيل من ليس جائز الأمر في سماع يحيى في توكيل بكر من يخاصم لها ، توكيلها غير جائز ; لأنها لا تلي مثل هذا من أمرها إنما يليه وصيها ، أو من يوكله السلطان ووقع في المدونة ما يوهم صحة وكالة المحجور عليه ففي عتقها الثاني إن دفع العبد مالا لرجل على أن يشتريه ويعتقه ففعل فالبيع لازم ، فإن استثنى ماله لم يغرم الثمن ثانيا وإلا غرمه ويعتق العبد ، ولا يتبع بشيء وفي سماع يحيى من العتق ما هو كالنص في ذلك قال فيه : إن دفع عبد إلى رجل مائة دينار ، وقال له اشترني لنفسي فاشتراه لنفس العبد واستثنى ماله كان حرا ، ولا رجوع لبائعه على العبد ، ولا على المشتري بشيء وولاؤه لبائعه ابن رشد .

                                                                                                                            مرض الأصيلي هذا الشراء بأن وكالة العبد لا تجوز إلا بإذن سيده فعلى قياس قوله إن لم يعلم السيد أنه اشتراه للعبد كان له رد ذلك ، وإن علم فلا كلام له ( قلت ) : كان يجري لنا الجواب عن تعقب الأصيلي بأن حجر العبد إنما هو ما دام في ملك سيده وهو ببيعه خرج عن ملكه ، وصح توكيله ، ولزم عتقه ضربة واحدة كقولها فيمن باع عبده بعد أن تزوج بغير إذنه ولم يعلم به : مضى نكاحه وليس لسيده فسخه إلا أن يرجع لملكه برده مبتاعه بعيب في نكاحه انتهى وما نقله ابن عرفة عن سماع يحيى في مسألة العتق لم أجدها فيه ، وإنما هي في سماع عيسى ومسألة وكالة البكر في الخصومة في كتاب البضائع والوكالات وما ذكره من أن البكر لا تلي ذلك يعني المخاصمة قبله ابن رشد ، وهو خلاف ما ذكره صاحب معين الحكام كما تقدم وقول ابن عرفة في جواب الأصيلي وهو ببيعه خرج عن ملكه وصح توكيله ولزم عتقه ضربة واحدة فيه نظر ; لأن التوكيل باطل على ما يقول الأصيلي قبل انتقال الملك ، فلا ينتقل الملك بالشراء الواقع به ، وأما إذا صح البيع وخرج عن ملك السيد فلا حاجة إذا إلى تصحيح التوكيل ، أو عدم تصحيحه وفي قياسه ، أو تشبيهه بمسألة نكاح العبد غير ظاهر وذلك بين ويمكن الجواب عما قال الأصيلي بأن يقال : سلمنا أن توكيله لا يجوز غاية ما فيه أنه شراء فضولي وهو جائز صحيح على المشهور فإذا أمضاه العبد بعد ذلك ورضيه مضى وصح العتق وفاعل استثنى من قوله : واستثنى ماله ضمير يعود على المشتري الذي دفع إليه العبد المائة .

                                                                                                                            ثم قال ابن عرفة : وأما منع كون الوكيل محجورا عليه فقال اللخمي : لا يجوز توكيله ; لأنه تضييع للمال ( قلت ) : وعليه عمل أهل بلدنا ، وظاهر كتاب المديان جوازه فيها منه ما نصه قلت : إن دفع إلى عبد أجنبي محجور عليه مالا يتجر به ، أو ليتيم محجور عليه ثم [ ص: 121 ] لحقهما دين أيكون في ذمتهما قال : قال مالك : يكون في المال الذي دفع إليهما وما زاد عليه فهو ساقط لا يكون في ذمتهما ( قلت ) : ظاهره جواز توكيلهما إلا أن يقال إنما تكلم عليه بعد الوقوع والأول أظهر وهو الأكثر من أخذ المشايخ من مفهومات المدونة الأحكام ويؤيده سماع أصبغ في العتق أن من قال : أشهدكم أن ما أعتق ابني ، أو أحدث رقيقي فأمره جائز وابنه سفيه ثم باع ابنه من رقيق أبيه عشرة جاز بيعه على أبيه ، وإن كره إلا أن يبيع بما لا يتغابن بمثله من محاباة بينة ووكالة السفيه كغيره ابن رشد هذا بين لا خلاف فيه ، ولا إشكال ، والتوكيل في الحياة بخلاف الوصية بمال ولده لا تجوز لسفيه بخلاف وصية بتنفيذ ثلثه إلى سفيه ، أو غير عدل ذلك جائز ; لأن ثلثه له حيا وميتا .

                                                                                                                            وظاهر كلام ابن رشد في رسم أسلم من كتاب العتق جواز توكيل المحجور عليه وفي نوازل ابن الحاج من وكل على قبض ديون له صبيا قبل بلوغه فقبضه براءة للغريم ; لأن رب الحق رضيه وأنزله منزلته انتهى .

                                                                                                                            ولفظ التهذيب في مسألة كتاب المديان المتقدمة : فما لحقهما من دين فيه كان في ذلك المال خاصة ، ولا يلزم ذمتهما ، ولا ذمة الدافع شيء انتهى .

                                                                                                                            وما ذكره عن سماع أصبغ في العتق إنما رأيته في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب العتق ، وكلام ابن رشد المذكور فيه وفيه بعد قوله هذا بين لا خلاف فيه ، ولا إشكال ; لأن للرجل أن يوكل على نفسه في حياته من رضي توكيله من رشيد ، أو سفيه ، فيلزمه من فعل السفيه ما يلزمه من فعل الرشيد ثم ذكر بقية الكلام المتقدم وما نقله ابن عرفة عن نوازل ابن الحاج نقله عن ابن سلمون قال في التوضيح في باب الوكالة في قول ابن الحاجب المتقدم : من جاز تصرفه لنفسه جاز توكيله لنفسه فإن قلت : يرد عليه ما في المدونة ومن وكل عبدا مأذونا له في التجارة ، أو غير مأذون له ليسلم له في طعام ففعل فذلك جائز ; لأنه لا يتصرف لنفسه فالجواب أن ذلك محمول على المأذون له باتفاق انتهى .

                                                                                                                            ولفظ المدونة ، أو محجور عليه عوض قول التوضيح ، أو غير مأذون له ، وأجاب ابن عبد السلام بقوله لا شك أن معنى مسألة المدونة عند الجميع أن ذلك مشروط بإذن سيد العبد فلا إشكال ; لأنه كما يجوز له أن يتصرف بإذن سيده فكذلك يجوز له أن يتوكل وأن يوكل على السلم بإذنه انتهى .

                                                                                                                            وعبارته ، أوضح من عبارة المؤلف ; فلذلك ذكرتها ومسألة المدونة في السلم الثاني وما ذكره ابن عبد السلام والمؤلف من الجواب لم يذكره أحد ممن رأيت من شراح المدونة بل ذكر أبو الحسن عن ابن محرز ما يؤخذ منه خلاف ذلك ونصه قال ابن محرز : أما المأذون له فلا أجر على من وكله ; لأنه كأنه مأذون له في هذا المقدار الخفيف من العمل ألا ترى أنه قد يودع فيحفظ الوديعة بغير إذن سيده ، ولا يكون له في ذلك أجر ، وأما غير المأذون فينبغي أن تكون له أجرة يدفعها من وكله إلى سيده الشيخ إلا أن يكون عمله ذلك لا خطب له لكون المسلم إليه أتى إلى منزل العبد فلا يكون له أجرة كما قال في كتاب الإجارة في مناولة القدح والنعل انتهى .

                                                                                                                            ونحوه في المشذالي قال : قوله " أو محجور " لم يتكلم هنا هل لسيده أن يطالب الموكل بقيمة عمله ، وفصل بعضهم فقال إن كان عمل له بال فله قيمة عمله إن كان محجورا ، وإن كان مأذونا فلا انتهى .

                                                                                                                            وكذلك قال اللخمي من وكل عبدا فأسلم له في طعام مضى والسلم للآمر فإن كان العبد محجورا كان لسيده إجارته في ذلك ، وإن كان مأذونا وفعل ذلك ليصلح به وجهه في تجارته لم يكن لسيده شيء ; لأن الغالب في إجارته ذلك يسيرة انتهى .

                                                                                                                            من السلم الثالث من تبصرته ، فتحصل من هذه النقول أن توكيل المحجور عليه في الخصام في تخليص ماله ، وطلب حقوقه لا يجوز على ظاهر المذهب ويصح على ما قاله في اللباب ونقله في معين الحكام عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، وتقدم أنه يقال إن غيره خالفه فيه ، وأما توكيله على البيع والشراء في ماله [ ص: 122 ] فلا يجوز ، ولم أر فيه خلافا بعد البحث إلا ما يؤخذ من مسألة العتق التي في المدونة ، والعتبية المتقدم ذكرهما .

                                                                                                                            وأما توكيل المرأة المحجور عليها في لوازم عصمتها فيجوز كما صرح به في التوضيح بل ليس لوليها القيام في ذلك إلا بتوكيل منها كما تقدم وأما كون المحجور عليه وكيلا فيجوز على ما صرح به في العتبية في رسم أسلم من سماع عيسى من كتاب العتق ، وصرح به ابن رشد في شرحها من أنه يجوز بلا خلاف ، وصرح به ابن رشيد في اللباب وأفتى به ابن الحاج ، ويؤخذ من مسألة السلم الثاني من المدونة ومن مسألة كتاب المديان منها ، ولا يجوز على ما قاله اللخمي ، وقال ابن عرفة عليه عمل أهل بلدنا ومشى عليه صاحب الجواهر ، وتابعيه كالقرافي وابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وغيرهم فتحصل في ذلك . طريقان ، وإنما أطلت الكلام في هذا ; لأن المصنف لم يتكلم عليه في الوكالة ويؤخذ من كلامه هنا المنع من توكيله وتوكله ، وهو أحد الطريقين كما علمت لكن يقيد ذلك بما عدا توكيل المحجور عليها في لوازم العصمة ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية