الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4652 4653 [ ص: 271 ] ص: وكان مما احتج به أهل المقالة الثانية لقولهم الذي ذكرنا:

                                                ما حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة ، عن الوليد بن جميع ، قال: ثنا أبو الطفيل، قال: ثنا حذيفة بن اليمان قال: " ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش، ، فقالوا: إنكم تريدون محمدا؟ ! فقلنا: ما نريد إلا المدينة. . فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله -عليه السلام-، فأخبرناه، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهودهم، ونستعين الله عليهم". .

                                                حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح ، قال: حدثني يونس بن بكير ، عن الوليد ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة قال: "خرجت أنا وأبي حسيل، ونحن نريد رسول الله -عليه السلام- ... " ثم ذكر نحوه.

                                                قالوا: فلما منعهما رسول الله -عليه السلام- من حضور بدر لاستحلاف المشركين القاهرين لهما على ما استحلفوهما عليه، ثبت بذلك أن الحلف على الطواعية والإكراه سواء، وكذلك الطلاق والعتاق، فهذا أولى ما فعل في الآثار إذا وقف على معاني بعضها، أن يحمل ما بقي منها على ما لا يخالف ذلك المعنى متى قدر على ذلك، حتى لا تتضاد.

                                                فثبت بما ذكرنا أن حديث ابن عباس في الشرك وحديث حذيفة في الطلاق والأيمان وما أشبه ذلك.

                                                التالي السابق


                                                ش: وجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع حذيفة وأباه حسيلا من حضور بدر؛ لأجل ما استحلفهما المشركون المتغلبون عليهما، على أن ينصرفا إلى المدينة ولا يقاتلاهم مع النبي -عليه السلام-.

                                                فدل ذلك أن الحلف على الاختيار والإكراه سواء؛ إذ لو لم يصح وجوب اليمين بالإكراه لما منعهما النبي -عليه السلام- من حضور بدر، ولقال لهما: يمينكما كرها لا يضركما.

                                                بل قال: "نفي لهم بعهودهم".

                                                فدل على أن اليمين يجب بالإكراه كما يجب بالاختيار.

                                                [ ص: 272 ] فإذا كان الحلف على الاختيار والإكراه سواء دخل فيه الطلاق والعتاق. وقد شنع ابن حزم في هذا الموضع على أصحابنا؛ فقال: ومن أعظم تناقضهم: أنهم يجيزون طلاق المكره ونكاحه وإنكاحه ورجعته وعتقه ولا يجيزون بيعه ولا ابتياعه ولا هبته ولا إقراره، وهذا تلاعب بالدين.

                                                قلت: حطه على العلماء النقاد بغير وجه هو التلاعب بالدين، ولا تناقض ها هنا؛ لأن التصرفات الشرعية في الأصل نوعان: إنشاء، وإقرار:

                                                والإنشاء نوعان: نوع لا يحتمل الفسخ، ونوع يحتمله.

                                                أما الذي لا يحتمل الفسخ: فالطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، واليمين، والنذر، والظهار، والإيلاء، والفيء من الإيلاء، والتدبير، والعفو عن القصاص، وهذه التصرفات جائزة مع الإكراه لما ذكرنا: أن عمومات النصوص وإطلاقها تقتضي شرعية هذه التصرفات من غير تخصيص ولا تقييد.

                                                وأما النوع الذي يحتمل الفسخ: فالبيع، والشراء، والهبة، والإجارة، ونحوها.

                                                فالإكراه يوجب فساد التصرفات؛ لعدم الرضا، وصحة هذه مبنية على الرضا، ولم يوجد، بخلاف القسم الأول؛ فإنه لا يتوقف على الاختيار.

                                                ألا ترى كيف ينفذ مع الهزل، وأما الإقرار فإن الإكراه يمنع صحته، سواء كان المقر به محتملا للفسخ أو لم يكن؛ لأن الإقرار إخبار، وصحة الإخبار عن الماضي بوجود المخبر به سابق على الإخبار، والمخبر به ها هنا يحتمل الوجود والعدم، وإنما تترجح جنبة الوجود على جنبة العدم بالصدق، وحال الإكراه لا يدل على الصدق؛ لأن الإنسان لا يتحرج عن الكذب حالة الإكراه، فلا يثبت الرجحان.

                                                ثم إنه أخرج حديث حذيفة من طريقين صحيحين.

                                                الأول: عن فهد بن سليمان .

                                                عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، شيخ مسلم وابن ماجه .

                                                عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي .

                                                [ ص: 273 ] عن الوليد بن جميع، هو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي .

                                                عن أبي الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي، الصحابي .

                                                عن حذيفة بن اليمان، واليمان لقب حسيل والد حذيفة -بضم الحاء وفتح السين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف- ويقال له: حسل -بكسر الحاء وسكون السين-.

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ثنا أبو أسامة ، عن الوليد بن جميع ... إلى آخره نحوه.

                                                الثاني: عن أحمد بن داود المكي .

                                                عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي .

                                                عن يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي .

                                                عن الوليد بن جميع ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا علي بن المنذر، نا محمد بن فضيل، نا الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة، قال: "ما منعني أنا وأبي أن نشهد بدرا إلا أني أقبلت أنا وهو نريد النبي -عليه السلام-، فاعترضنا كفار قريش، فقالوا: أين تريدون؟ قلنا: إلى المدينة. قالوا: تريدون محمدا؛ فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفن إلى المدينة ولا تقاتلون معه. فأعطيناهم ما أرادوا، فخلوا سبيلنا، ثم أتينا النبي -عليه السلام-، فأخبرناه الخبر، فقال: فوا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم. وانصرفوا إلى المدينة، وانصرفنا، فذلك الذي منعنا".

                                                قوله: "نفي لهم" بنون الجماعة، من الوفاء.

                                                وقوله: "فوا" في رواية البزار أمر للجمع من وفى، يفي، ف، فيا، فوا، كما تقول: ق، قيا، قوا.

                                                [ ص: 274 ] قوله: "وأبي حسيل" برفع حسيل؛ لأنه عطف بيان عن قوله: "أبي"، وقد قلنا: إن اسم والد حذيفة حسيل أو حسل، واليمان لقب عليه.

                                                قتل حسيل بن جابر؛ قتله المسلمون خطأ في غزوة أحد، فقال حذيفة: أبي، أبي.

                                                فقالوا: والله ما عرفناه. فصدقوا، فتصدق رسول الله -عليه السلام- بديته على المسلمين.

                                                ومات حذيفة بعد مقتل عثمان بأربعين يوما.




                                                الخدمات العلمية