الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5624 5625 5626 5627 5628 ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما ذهب من ذلك من شيء -قل أو كثر- بعد أن يقبضه المشتري؛ ذهب من مال المشتري وما ذهب في يدي البائع قبل أن يقبضه المشتري بطل ثمنه عن المشتري.

                                                وقالوا: ما في هذه الآثار المروية عن رسول الله -عليه السلام- التي ذكرتموها فمقبول صحيح على ما جاء، ولسنا ندفع من ذلك شيئا؛ لصحة مخرجه، ولكنا نخالف التأويل الذي تأولها عليه أهل المقالة الأولى.

                                                ونقول: إن معنى الجوائح المذكورة فيها: هي الجوائح التي يصاب الناس بها وتجتاحهم في الأرضين الخراجية التي خراجها للمسلمين، فوضع ذلك الخراج عنهم واجب لازم؛ لأن في ذلك صلاحا للمسلمين، وتقوية لهم في عمارة أرضهم، فأما في الأشياء المبيعات فلا؛ فهذا تأويل حديث جابر ، -رضي الله عنه- الذي في أول هذا الباب.

                                                وأما حديث جابر الثاني فمعناه غير هذا المعنى، وذلك أنه ذكر فيه البيع ولم يذكر فيه القبض، فذلك عندنا على البياعات التي تصاب في أيدي باعتها قبل قبض المشتري لها، فلا يحل للباعة أخذ ثمنها، لأنهم يأخذونها بغير حق، فهذا تأويل هذا الحديث عندهم.

                                                [ ص: 531 ] فأما ما قد قبضه المشترون وصار في أيديهم، فذلك كسائر البياعات التي يقبضها المشتري لها فتحدث بها الآفات في أيديهم، فلما كان غير الثمار يذهب من أموال المشتري لها لا من أموال باعتها؛ فكذلك الثمار.

                                                فهذا هو النظر وهو أولى ما حمل عليه هذا الحديث؛ لأنه قد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث (ح).

                                                وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف (ح).

                                                وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب (ح).

                                                وحدثنا أبو أمية، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قالوا: ثنا الليث، قالا جميعا: عن بكير بن الأشج ، عن عياض بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري ، -رضي الله عنه- قال: "أصيب رجل في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك".

                                                فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار، وفيهم باعتها، ولم يرده على الباعة بالثمن، إن كانوا قد قبضوا ذلك منه؛ ثبت أن الجوائح الحادثة في يد المشتري لا تكون مبطلة عنه شيئا من الثمن الذي عليه للبائع .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: وهم جمهور السلف والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا والشافعي في الجديد وأبا جعفر الطبري وداود وأصحابه، فإنهم قالوا: ما ذهب من ذلك -أي من المبيع- الثمر الذي أصابته جائحة من شيء، سواء كان قليلا أو كثيرا بعد قبض المشتري إياه، فهو ذاهب من مال المشتري، والذي ذهب في يد البائع قبل قبض [المشتري] فذاك يبطل الثمن عن المشتري.

                                                [ ص: 532 ] قوله: "وقالوا: ما في هذه الأحاديث ... " إلى آخره جواب عن الأحاديث التي رويت عن رسول الله -عليه السلام- في الجائحة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وهو ظاهر.

                                                وقوله: "ما" في محل الرفع على الابتداء، موصولة تتضمن معنى الشرط، ولهذا دخلت "الفاء" في خبره، وهو قوله: "فمقبول".

                                                قوله: "على البياعات" جمع بياعة، بمعنى البيع.

                                                قوله: "باعتها" جمع بائع، كالحاكة جمع حائك.

                                                قوله: "فهذا هو النظر" أي هذا الذي أولناه هو وجه النظر والقياس، وهذا هو أولى ما حمل عليه حديث جابر -رضي الله عنه- أعني حديثه الثاني الذي رواه ابن جريج عن أبي الزبير عنه.

                                                وقوله: "لأن ما روي عن رسول الله -عليه السلام- إلى آخره دليل لما ذكره من التأويل الذي يقتضيه النظر.

                                                وقد بين ذلك بقوله: "فلما كان رسول الله -عليه السلام- لم يبطل دين الغرماء ... " إلى آخره.

                                                ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- من أربع طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه مسلم بنفس هذا الإسناد: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب .

                                                وقد ذكرنا في ترجمة الطحاوي أنه قد شارك مسلما في بعض مشايخه، منهم: يونس بن عبد الأعلى هذا.

                                                [ ص: 533 ] الثاني: عن يونس أيضا، عن عبد الله بن يوسف التنيسي المصري شيخ البخاري عن الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ... إلى آخره.

                                                وأخرجه مسلم أيضا : ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث ، عن بكير ، عن عياض بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصيب رجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله -عليه السلام-: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك".

                                                الثالث: عن الربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه الليث ، عن بكير ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أبو داود ، عن قتيبة بن سعيد ، عن الليث ، عن بكير ... إلى آخره نحوه.

                                                الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي ، عن يحيى بن إسحاق البجلي أبي بكر السيلحيني -ويقال: السيلحوني، والسالحيني أيضا، والسيلحين: قرية بالقرب من بغداد.

                                                وأخرجه النسائي : عن قتيبة ، عن الليث ، عن بكير ... إلى آخره نحوه.

                                                قوله: "أصيب رجل في ثماره" قيل: إنه هو معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.

                                                قوله: "ابتاعها" أي اشتراها.

                                                قوله: "فلم يبلغ ذلك" أي الذي تصدق عليه.

                                                وهذا الحديث يشتمل على أحكام:

                                                الأول: فيه دلالة على أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تكون مبطلة [ ص: 534 ] للثمن الذي عليه للبائع، ولا شيئا منه؛ لأنه -عليه السلام- لم يحكم ببطلان دين الغرماء فيه بذهاب الثمار.

                                                وقال ابن حزم: أخرج رسول الله -عليه السلام- هذا الرجل الذي أصيب في ثمار من ماله كله لغرمائه، ولم يسقط عنه لأجل الجائحة شيئا، فدل ذلك أن الجائحة التي تحدث في يد المشتري لا تبطل شيئا من الثمن.

                                                فإن قيل: لا نسلم هذا الذي ذكرتم لأن الحديث الأول عام، والمقصود منه البيان بوضع الجوائح، وهذا الحديث حكم في عين، ولعله اشتراها بعد تمام طيبها وإمكان جذاذها.

                                                قلت: هذا ممنوع؛ لأن الحديث الأول قد ذكرنا أنه في الأرضين الخراجية وليس فيه شيء يدل على أنه في الأشياء المبيعات.

                                                وأما الحديث الثاني فإن العبرة فيه لعموم اللفظ لا لخصوص السبب؛ فافهم.

                                                الثاني: فيه الحض على الصدقة على المديان ليقضي منها دينه.

                                                الثالث: فيه أن الحر لا يباع في الدين، على ما كان في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة

                                                الرابع: فيه أنه لم يلزمهم بلزومه، ولا سوغه لهم، وهو حجة على من يذهب إلى خلاف ذلك.

                                                الخامس: فيه أنه لم يسجنه -عليه السلام-، وهو حجة على شريح: في قوله: يسجن أبدا حتى يؤدي، وإن ثبت عدمه.

                                                السادس: فيه الحكم بأن يسلم للغرماء جميع ما يملكه، ويسوغه لهم الحاكم إن كان دينهم من جنسه، وإن كان غيره، باعه لهم الحاكم، وقسم ثمنه بينهم.




                                                الخدمات العلمية