الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما أحمد فاستدل برواية ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل الناس وهو غني كانت مسألته يوم القيامة خموشا ، أو خدوشا ، أو كدوحا في وجهه ، قيل : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : خمسون درهما أو عدلها .

                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة فاستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فجعل المأخوذ منه غير المدفوع إليه ، قالوا : ولأنه مالك لنصاب من مال ، فوجب أن يكون غنيا تحرم عليهالصدقة أصلا إذا كان له كفاية على الدوام ، قالوا : ولأن اعتبار الكفاية لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يعتبروا كفاية زمان المقدر ، أو كفاية العمر ، فلم يجز أن يعتبر كفاية العمر لأنه مجهول ، وأما الزمان المقدر فلستم في اعتباره بسنته بأولى من اعتباره بأقل منها أو أكثر فبطل اعتبار الكفاية ، ودليلنا حديث قبيصة بن المخارق أنه تحمل بحمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال : نؤدها عنك من نعم الصدقة ، يا قبيصة ، إن المسألة حرمت إلا في ثلاثة : رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن به حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت .

                                                                                                                                            فدل نص هذا الخبر على أن الصدقة تحل بالحاجة وتحرم بإصابة القوام من العيش وهو الكفاية على الدوام من غير أن يعتبر النصاب ، ولأن من عجز عن الكفاية الدائمة زال عنه حكم الغنى كالذي لا [ ص: 521 ] يملك نصابا ؛ ولأن ملك النصاب والحاجة معنيان مختلفان يجوز اجتماعهما فجاز اجتماع حكمهما وهما أخذ الصدقة منه بالنصاب ودفعها إليه بالحاجة كالعشر ، ولأنه لما لم يكن ملك قيمة النصاب من المتاع والعروض يمنع من أخذ الصدقة لأجل الحاجة لم يكن ملك النصاب مانعا منها لأجل الحاجة .

                                                                                                                                            وتحريره أنه ذو حاجة فلم تحرم عليه الصدقة بالقدرة على نصاب كمالك المتاع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال أحمد بحديث ابن مسعود فهو أنه لم يقصد به تحديد الغنى في جميع الناس ، وإنما أراد به من كانت كفايته خمسين درهما ، بدليل ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل الناس وله قيمة أوقية فقد ألحف ، يعني : لمن كان مكتفيا بها .

                                                                                                                                            وروى سهل ابن الحنظلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من سأل وعنده ما يغنيه فقد استكثر من النار ، قيل : وما يغنيه ؟ قال : قدر ما يغديه ويعشيه وهذا فيمن يكتسب بصنعته قدر عشائه وغدائه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فهو أنه قصد بذلك إنما يأخذه من صدقاتهم ليس يأخذه لنفسه وأهله ، وإنما يرده على فقرائهم من ذوي الحاجات وليس يمنع أن يكون المأخوذ منه مردودا عليه كالعامل وابن السبيل وكالمأخوذ منه العشر والعشر عندنا زكاة ، وأما إذا كان واجدا للكفاية فتحرم عليه الزكاة لوجود الكفاية ، لا يملك النصاب فلم يصح قياسهم .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأنه لا يخلو اعتبار الكفاية من أن يكون بالعمر أو بزمان مقدر فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فكان مذهب أبي العباس بن سريج إلى أنه معتبر بزمان مقدر وهو سنة وذلك أولى من اعتباره بأقل منهما أو أكثر : لأن الزكاة تجب بعد سنة ، فاعتبر في مستحقها لكافية السنة ، وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يعتبر في ذلك كفاية العمر ولئن كان العمر مجهولا فالكفاية فيه لا تجهل : لأن كفاية الشهر من أجل معين أو صنعة تدل على كفاية العمر وإن جهل .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد يمرض فيعجز عن الكسب ، أو يغلو السعر ، فلا يكتفى بذلك القدر .

                                                                                                                                            قيل : إذا كان ذلك صار حينئذ من أهل الصدقة كما أنه قد يجوز أن يملك النصاب فيصير من أهل الصدقة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية