الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ولما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بيعة الأنصار في العقبة إلى مكة ، وذلك في ذي الحجة عادت الفتنة أشد مما كانت في فتنة الهجرة إلى الحبشة ، واشتد الأذى بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها فخرجوا أرسالا ، وكان أول من هاجر إليها بعد بيعة العقبة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وبعده عامر بن ربيعة ، ثم عبد الله بن جحش ، ثم تتابع الناس أرسالا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بمكة ينتظر إذن ربه ، واستأذنه أبو بكر في الهجرة فاستوقفه .

                                                                                                                                            وأسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس بين بيعتي الأنصار في العقبة .

                                                                                                                                            قال الزهري : قبل هجرته بسنة ، فأصبح وقص ذلك على قريش ، وذكر لهم حديث المعراج ، فازداد المشركون تكذيبا ، وأسرعوا إلى أبي بكر ، وقالوا له : إن صاحبك يزعم أنه قد ذهب إلى بيت المقدس ، وعاد من ليلته ، فقال : إن قال ذلك فهو صادق : فلذلك سمي الصديق ، ووصف لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأى في طريقه ، فكان على ما وصفه . واختلف في إسرائه هل كان بجسمه ، أو بروحه ؟ فقال ابن عباس : أسرى بجسمه .

                                                                                                                                            وقالت عائشة : أسري بروحه وما زال جسمه عندي ، ولما صارت المدينة دار هجرة وصار من بها من الأوس والخزرج أنصارا امتنعت قريش أن ينصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم : فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاروا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمي ذلك اليوم لكثرة زحامهم فيه يوم " الزحمة " فقال قائل منهم : احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ، وتربصوا به .

                                                                                                                                            وقال آخر : أخرجوه من بين أظهركم ، ولا عليكم ما أصابه بعدكم .

                                                                                                                                            وقال أبو جهل : لست أرى ما ذكرتم رأي كريم ، ولكن أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا نسيبا ، ويجتمعون عليه بأسيافهم ، فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ، ويتفرق دمه في قبائلهم ، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم ، ويرضوا بالعقل فنعقله لهم ، فأجمعوا على هذا الرأي ، وتفرقوا عنه ليثبتوه من ليلته ، وتفرقوا ليجتمعوا على قتله ، فنزل قول الله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ الأنفال : 130 ] . فعلم رسول [ ص: 22 ] الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فأعلم أبا بكر بالهجرة ، وقد كان أعد للهجرة راحلتين ، واستخلف عليا في منامه ، وأن يتشح ببرده الحضرمي الأخضر : لأن قريشا ترى منامه فيه ، وأمر عليا أن يرد ودائع الناس عليهم ، وخرج في الظلام مع أبي بكر إلى غار ثور ، وخرج معهما عامر بن فهيرة لخدمتهما ، وليروح عليهما بغنم يرعاها لأبي بكر ، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتي كل يوم بما يتجدد من أخبار قريش بمكة ، وتأتي أسماء بنت أبي بكر بطعام ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن فهيرة : ارتد لنا دليلا من الأزد : فإنهم أوفى بالعهد : فاستأجر عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان مشركا ، وأقاما في الغار ثلاثة أيام ، وكان خروجهما في يوم الاثنين في صفر ، وخرجت قريش في طلبه ، وجعلوا لمن جاءهم به مائة ناقة حمراء ففاتهم .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من مكة بكى وقال : اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي : فأسكني أحب البلاد إليك وقدموا المدينة في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، فروي عن ابن عباس أنه قال : " ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، وبعث نبيا يوم الاثنين ، وهاجر من مكة يوم الاثنين ، ومات يوم الاثنين " وكان قدومه قبل قيام الظهيرة ، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف في دار كلثوم بن الهدم ، وقيل في دار سعد بن خيثمة ، فأقام بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، ويوم الخميس ، وبنى مسجد قباء ، وخرج يوم الجمعة متوجها إلى المدينة ، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فصلى بهم الجمعة ، وهي أول جمعة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل المدينة ، أرخى زمام ناقته ، فجعل لا يمر بدار إلا سأله أهلها النزول عليهم ، وهو يقول : خلوا زمامها ، فإنها مأمورة حتى انتهى إلى موضع المسجد اليوم ، فبركت على باب مسجده ، وهي يومئذ مربد ليتيمين من الأنصار سهل وسهيل ابني عمرو ، وكانا في حجر معاذ بن عفراء ، فنزل عنها واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ، فنزل عليه وقال : المرء مع رحله وقال للأنصار : ثامنوني بهذا المربد ؟ فقالوا : لا نأخذ له ثمنا ، فبناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبأصحابه مسجدا وهو يقول :


                                                                                                                                            اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فارحم الأنصار والمهاجره

                                                                                                                                            وأقام عند أبي أيوب ، حتى فرغ من بنائه ، وهاجر علي بن أبي طالب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أيام ، قام فيهـا برد الودائع على أهلها . وكان آخر من قدم من المهاجرين [ ص: 23 ] سعد بن أبي وقاص في عشرة من المهاجرين ، وبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها بعد سبعة أشهر من مقدمه المدينة في شوال ، وكان قد تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين في شوال بعد وفاة خديجة ، وهي ابنة ست سنين .

                                                                                                                                            وقيل : ابنة سبع ، وكان قد تزوج قبلها بعد خديجة سودة بنت زمعة ، وقدمت عليه بعد هجرته .

                                                                                                                                            واختلف أهل النقل في مدة مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النبوة فقال الأكثرون :

                                                                                                                                            ثلاث عشرة سنة ، وقال آخرون عشر سنين ، ويشبه أن يكون هذا قول من زعم أنه قرن بإسرافيل ثلاث سنين ، ثم قرن بجبريل حتى نزل عليه الوحي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية