الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 152 ] باب جامع السير

                                                                                                                                            قال الشافعي : " الحكم في المشركين حكمان : فمن كان منهم أهل أوثان ، أو من عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب ، لم تؤخذ منهم الجزية ، وقوتلوا حتى يقتلوا أو يسلموا : لقول الله تبارك وتعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه المسألة من كتاب الجزية وإنما قدمها المزني في الجهاد لتعلقها بأحكامه ، والمشرالكون ثلاثة أصناف :

                                                                                                                                            أحدها : أهل كتاب .

                                                                                                                                            والثاني : من لهم شبهة كتاب .

                                                                                                                                            والثالث : من ليس بأهل كتاب ، ولا لهم شبهة كتاب .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم جعلهم الشافعي صنفين‌‌‌‌ وهم أكثر ؟ فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنهم في حكم الجزية صنفان ، وإن كانوا في غيرها من الأحكام أكثر .

                                                                                                                                            والثاني : لأن الذين جاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا على عهده صنفين .

                                                                                                                                            فإن قيل : فلم أدخل أهل الكتاب في المشركين ، وأطلق عليهم اسم الشرك وقد منع غيره من الفقهاء إطلاق اسم الشرك عليهم : لأنه ينطلق على من جعل لله شريكا معبودا ؟ فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : لأن فيهم من جعل لله ولدا وفيهم من جعله ثالث ثلاثة .

                                                                                                                                            والثاني : لأنهم لما أنكروا معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأضافوها إلى غيره جعلوا له شريكا فيها ، فلم يمتنع لهذين أن ينطلق عليهم اسم الشرك .

                                                                                                                                            فأما أهل الكتاب فصنفان :

                                                                                                                                            أحدهما : اليهود ومن تبعهم من السامرة وكتابهم التوراة .

                                                                                                                                            والثاني : النصارى ومن تبعهم من الصابئين وكتابهم الإنجيل ، فهو لا يجوز أخذ [ ص: 153 ] الجزية منهم إن بذلوها مع أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، وأما من ليس بأهل كتاب ولهم شبهة كتاب فهم المجوس : لأن وقوع الشك في كتابهم أجرى عليهم حكمه في حقن دمائهم ، فيجوز أن تؤخذ منهم الجزية ، ولا يجوز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم على الصحيح في المذهب وسيأتي شرحه .

                                                                                                                                            وأما من ليس بأهل كتاب ولا لهم شبهة كتاب فهم أهل الأوثان ومن عبد ما استحسن من الشمس والنار ، فلا يجوز أن تقبل جزيتهم ، ولا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم ، سواء كانوا عربا أو عجما ، ويقاتلوا حتى يسلموا أو يقتلوا .

                                                                                                                                            وقال مالك : تقبل جزيتهم إلا أن يكونوا من قريش ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : تقبل جزيتهم إلا إن كانوا عجما ، ولا تقبل جزيتهم إن كانوا عربا حتى يسلموا ، احتجاجا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ألا أدلكم على كلمة تدين لكم بها العرب ، وتؤدي الجزية إليكم بها العجم ؟ شهادة أن لا إله إلا الله فعم بالجزية جميع العجم ما عم بالدين جميع العرب ، فدل على افتراقهما في حكم الجزية .

                                                                                                                                            وروى سليمان بن بريدة ، عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ، فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم : ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وهذا نص في أخذ الجزية من المشركين من غير أهل الكتاب : ولأن من جاز استرقاق نسائهم جاز أخذ الجزية من رجالهم كأهل الكتاب ، ولأن الجزية ذل وصغار ، فإذا جرت على أهل الكتاب وهم أفضل ، كان إجراؤها على من دونهم من عبدة الأوثان أولى .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 15 ] . فكان الأمر بقتلهم حتى يسلموا عاما ، وخص منهم أهل الكتاب بقبول الجزية ، فقال : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله تعالى : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] . فكان الدليل في هذا من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن استثناء أهل الكتاب منهم يقتضي خروج غيرهم من استثنائهم ، ودخولهم في عموم الأمر .

                                                                                                                                            [ ص: 154 ] والثاني : أنه جعل قبول الجزية مشروطا بالكتاب ، فاقتضى انتفاؤها عن غير أهل الكتاب .

                                                                                                                                            وروى أبو صالح ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم . فكان على عمومه ، إلا ما خصه دليل ، ولأن عمر - رضي الله عنه - امتنع من أخذ الجزية من المجوس لشكه فيهم أنهم من أهل الكتاب ، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر وقال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب .

                                                                                                                                            وقال رجل لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - : " عجبت من أخذ الجزية من المجوس ، وليس لهم كتاب ؟ فقال علي : كيف تعجب وقد كان لهم كتاب فبدلوا ، فأسرى به ، فدل ذلك على إجماع الصحابة على أنها لا تؤخذ من غير أهل الكتاب ، ولأن كل مشرك لم تثبت له حرمة الكتاب لم يجز قبول جزيته كالعرب ، ولأن كل ما منع الشرك منه في العرب منع منه العجم كالمناكح والذبائح .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الحديث الأول فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ضعيف ، نقله أهل المغازي ولم ينقله أصحاب الحديث .

                                                                                                                                            والثاني : حمله على أهل الكتاب بدليلنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الحديث الثاني فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أكثر السرايا كانت إلى أهل الكتاب .

                                                                                                                                            والثاني : حمله بأدلتنا على أهل الكتاب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على أهل الكتاب ، فالمعني فيهم ما ثبت لهم من حرمة كتابهم ، وأنهم كانوا على حق في اتباعه ، وهذا معدوم في غيرهم من عبدة الأوثان ، وقولهم : إنها صغار فكانت بعبدة الأوثان أحق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية