الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الحجاز فلا يجوز أن يستوطنه مشرك ، من كتابي ولا وثني ، وجوزه أبو حنيفة كسائر الأمصار احتجاجا بإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى أن قبضه الله تعالى إليه ، ولأن كل أرض حل صيدها حل لهم استيطانها كغير الحجاز .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما رواه عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كانت آخر ما عهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قال : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان وهذا نص .

                                                                                                                                            ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط حكم قوله ، وتشاغل أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة ، ومانعي الزكاة ، وتطاولت الأيام بعمر - رضي الله عنه - وتكاملت له جزيرة العرب ، وفتح ما جاورها ، نفذ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، فاجتمع رأيه ، ورأي الصحابة - رضي الله عنهم - على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء ، وصناع ، يحتاج المسلمون إليهم : فضرب لمن قدم منهم تاجرا ، وصانعا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم ، بعدها اخرجوا ، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها : أقركم ما أقركم الله فدل على أن مقامهم غير مستدام ، وأن لحظره فيهم حكما مستجدا .

                                                                                                                                            وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب ، فمات قبل نفيهم ، ولأن الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى ، ومبعث رسالته ومستقر دينه ، ومهاجرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - صار أشرف من غيره ، فكانت حرمته أغلظ ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك كالحرم .

                                                                                                                                            [ ص: 337 ] فإذا ثبت حظر استيطان أهل الذمة للحجاز ، فيجوز أن يدخلوه دخول المسافرين لا يقيموا من موضع منه أكثر من ثلاثة أيام : لأن عمر حين أجلاهم ضرب لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام ، فكان هذا القدر مستثنى من الحظر ، استدل به على أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب محمولة على الاستيطان دون الاجتياز : ولأن الله تعالى يقول : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [ التوبة : 6 ] ويكفيه أن يهتدي بسماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث : ولأنه لما انخفضت حرمة الحجاز عن الحرم ، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في الحرم ، وحرم عليهم من استيطان الحجاز ما استباحوه في غيره ، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر ، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها ، ويمنعون من دخول الحجاز ، وإن كانوا أهل ذمة إلا بإذن الإمام : لأن مقصوده التصرف دون الأمان .

                                                                                                                                            فلو أذن لهم واحد من المسلمين لم يجز أن يدخلوا بإذنه ، وإن كان لو أذن لحربي جاز أن يدخل دار الإسلام بإذنه .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن المقصود بإذنه للحربي أمانه ، وأمان الواحد من المسلمين يجوز ، والمقصود بإذنه للذمي في دخول الحجاز التصرف المقصور على إذن الإمام ، فلو دخل ذمي الحجاز بغير إذن عزر وأخرج ولا يغنم ماله : لأن له بالذمة أمانا ولو دخل حربي بلاد الإسلام بغير إذن غنم ماله : لأنه لا أمان له ، ويجوز إذا أقاموا ببلد من الحجاز ثلاثا أن ينتقلوا إلى غيره ، فيقيموا فيه ثلاثا ، ثم كذلك في بلد بعد بلد ، فإن لم يقض حاجته في الثلاث ، واحتاج إلى زيادة مقام : لاقتضاء الديون منح ، وقيل له : وكل من يقبضها لك ، ولو مرض ، ولم يقدر على النهوض مكن من المقام : لأنها حال ضرورة حتى يبرأ ، فيخرج بخلاف الدين الذي يقدر على قبضه ، فإن مات في الحجاز لم يدفن فيه : لأن الدفن مقام تأبيد إلا أن يتعذر إخراجه ، ويتغير إن استبقى من غير دفن فيدفن في الحجاز للضرورة كما يقيم فيه مريضا .

                                                                                                                                            فأما الحجاز ، فهو بعض جزيرة العرب ، ولأن كل قول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجه إلى جزيرة العرب مختلف فيه ، فهي في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى أقصى ريف العراق في الطول ، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام في العرض .

                                                                                                                                            وقال أبو عبيدة : جزيرة العرب في الطول ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن ، وفي العرض ما بين رمل إلى يبرين إلى منقطع السماوة ، وفي جزيرة العرب أرض نجد وتهامة ، وحد نجد وتهامة مختلف فيه ، فقال الأصمعي : إذا خلفت عجاز مصعدا ، فقد أنجدت ، فلا تزال منجدا حتى تنحدر في ثنايا ذات عرق ، فإذا فعلت فقد أتهمت ، ولا تزال متهما في ثنايا العرج حتى يستقبلك الأراك والمدارج .

                                                                                                                                            [ ص: 338 ] وقال غيره : جبل السراة في جزيرة العرب وهو أعظم جبالها يقبل من ثغرة اليمن حتى ينتهي إلى وادي الشام فما دون هذا الجبل في غرسية من أسياف البحر إلى ذات عرق ، والجحفة هو تهامة ، وما دون هذا الجبل في شرقي ما بين أطراف العراق إلى السماوة ، فهو نجد .

                                                                                                                                            وأما الحجاز فهو حاجز بين تهامة ونجد ، وهو منهما ، وحده مختلف فيه ، فقال قوم : هو ما احتجز بالجبل في شرقيه وغربيه عن بلاد مذحج إلى فيد .

                                                                                                                                            وقال آخرون : هو اثنتا عشرة دارا للعرب .

                                                                                                                                            فالحد الأول : بطن مكة ، وأعلا رمة وظهره ، وحرة ليلى .

                                                                                                                                            والحد الثاني : يلي الشام شفي وبدا ، وهما جبلان .

                                                                                                                                            والحد الثالث : يلي تهامة بدر ، والسقيا ، ورهاط ، وعكاظ .

                                                                                                                                            والحد الرابع : ساكة وودان .

                                                                                                                                            واختلف في تسميته بالحجاز ، فقال الأصمعي : لأنه حجز بين نجد وتهامة .

                                                                                                                                            وقال ابن الكلبي : سمي حجازا لما أحجز من الجبال ، وأما غير الحجاز فضل من بلاد الإسلام ، فمن دخلها من المشركين بغير ذمة ولا عهد فهو حرب كالأسرى يغنم ويسبى ، ويكون الإمام فيه مخيرا كتخييره في الأسير بين الأحكام الأربعة من القتل أو الأسر أو المن أو الفداء ، ويجوز أن يعفو من سبي ذريته بخلاف السبايا في الحرب : لأن الغانمين قد ملكوهم : فلا يصح العفو عنهم إلا بإذنهم ، وذرية هذا الداخل بغير عهد لم يملكهم أحد ، فجاز فوق الإمام .

                                                                                                                                            فأما من دخل دار الإسلام بأمان ، فضربان : أهل ذمة ، وأهل عهد .

                                                                                                                                            فأما أهل الذمة ، فهو المستوطن ، ولا يجوز استيطانهم إلا بجزية إذا كانوا أهل كتاب ، أو شبهة كتاب .

                                                                                                                                            وأما أهل العهد ، فهو الداخل إلى بلاد الإسلام بغير استيطان ، فيكون مقامهم مقصورا على مدة لا يتجاوزونها ، وهي أربعة أشهر لقول الله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ التوبة : 2 ]

                                                                                                                                            فأما مدة سنة ، فلا يجوز أن يقيموها إلا بجزية ، وفي جواز إقامتهم بغير جزية فيما بين أربعة أشهر وبين سنة قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأنها دون السنة كالأربعة .

                                                                                                                                            [ ص: 339 ] والقول الثاني : لا يجوز : لأنه فوق الأربعة كالسنة ، وسواء كانوا من أهل الكتاب أو لم يكونوا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية