الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 187 ] الصنف الثاني في النهي

          اعلم أنه لما كان النهي مقابلا للأمر فكل ما قيل في حد الأمر على أصولنا وأصول المعتزلة من المزيف والمختار .

          فقد قيل مقابله في حد النهي ولا يخفى وجه الكلام فيه .

          والكلام في النهي " على أصول أصحابنا " هل له صيغة تخصه وتدل عليه ؟ فعلى ما سبق في الأمر أيضا ، وأن صيغة " لا تفعل " وإن ترددت بين سبعة محامل : وهي التحريم والكراهة والتحقير كقوله تعالى : ( ولا تمدن عينيك ) ، وبيان العاقبة كقوله : ( ولا تحسبن الله غافلا ) ، والدعاء كقوله : " لا تكلنا إلى أنفسنا " ، واليأس كقوله : ( لا تعتذروا اليوم ) ، والإرشاد كقوله : ( لا تسألوا عن أشياء ) .

          فهي حقيقة في طلب الترك واقتضائه ، ومجاز فيما عداه .

          وأنها هل هي حقية [1] في التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما أو موقوفة ؟ فعلى ما سبق في الأمر من المزيف ، والمختار ، والخلاف في أكثر مسائله ، فعلى وزان الخلاف في مقابلاتها من مسائل الأمر ومأخذها كمأخذها فعلى الناظر بالنقل والاعتبار .

          غير أنه لا بد من الإشارة إلى ما تدعو الحاجة إلى معرفته من المسائل الخاصة بالنهي ، لاختصاصها بمأخذ لا تحقق له في مقابلاتها من مسائل الأمر ، وهي ثلاث مسائل .

          [ ص: 188 ] المسألة الأولى [2]

          اختلفوا في أن النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أو لا ؟

          فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة ، والحنابلة وجميع أهل الظاهر ، وجماعة من المتكلمين إلى فسادها ، لكن اختلفوا في جهة الفساد ، فمنهم من قال : إن ذلك من جهة اللغة ، ومنهم من قال : إنه من جهة الشرع دون اللغة ، ومنهم من لم يقل بالفساد وهو اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية ، وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم .

          ولا نعرف خلافا في أن ما نهي عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة إلا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه .

          والمختار أن ما نهي عنه لعينه [3] فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى .

          أما أنه لا يدل على الفساد من جهة اللغة فلأنه لا معنى لكون التصرف فاسدا سوى انتفاء أحكامه وثمراته المقصودة منه وخروجه عن كونه سببا مفيدا لها ، والنهي هو طلب ترك الفعل ولا إشعار له بسلب أحكامه وثمراته وإخراجه عن كونه سببا مفيدا لها .

          ولهذا فإنه لو قال : نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه لعينه ، ولكن إن فعلت حلت الذبيحة وكان ذلك سببا للحل ، ونهيتك عن استيلاد جارية الابن لعينه وإن فعلت ملكتها ، ونهيتك عن بيع مال الربا بجنسه متفاضلا لعينه وإن فعلت [ ص: 189 ] ثبت الملك ، وكان البيع سببا له فإنه لا يكون متناقضا .

          ولو كان النهي عن التصرف لعينه مقتضيا لفساده لكان ذلك متناقضا [4] .

          وأما أنه يدل على الفساد من جهة المعنى فذلك لأن النهي طلب ترك الفعل ، وهو إما أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ترك الفعل [5] أو لا لمقصود لا جائز أن يقال إنه لا لمقصود .

          أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الشارع .

          وأما على أصولنا [6] فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد ، لكن لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع .

          فالإجماع إذا منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحكم ، وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر .

          وبتقدير تسليم خلو بعض الأحكام عن الحكمة إلا أنه نادر ، والغالب عدم الخلو .

          وعند ذلك فإدراج ما وقع فيه النزاع تحت الغالب يكون أغلب .

          وإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين أن يكون لمقصود ، وإذا كان لمقصود فلو صح التصرف وكان سببا لحكمه المطلوب منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحا على مقصود الصحة أو مساويا أو مرجوحا ، لا جائز أن يكون مرجوحا إذ المرجوح لا يكون مقصودا مطلوبا في نظر العقلاء .

          والغالب من الشارع إنما هو التقرير لا التغيير .

          وما لا يكون مقصودا فلا يرد طلب الترك لأجله ، وإلا كان الطلب خليا عن الحكمة وهو ممتنع لما سبق .

          [ ص: 190 ] وبمثل ذلك يتبين أنه لا يكون مساويا [7] فلم يبق إلا أن يكون راجحا على مقصود الصحة ، ويلزم من ذلك امتناع الصحة وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه ، وإلا كان الحكم بالصحة خليا عن حكمة ومقصود ، ضرورة كون مقصودها مرجوحا على ما تقدم تقريره ، وإثبات الحكم خليا عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع ، وهو المطلوب .

          فإن قيل ما ذكرتموه من كون النهي لا يدل على الفساد لغة معارض بما يدل عليه .

          وبيانه من جهة النص والإجماع والمعنى .

          أما من جهة النص فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي رواية : " أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول .

          ولا يخفى أن المنهي ليس بمأمور ولا هو من الدين فكان مردودا .

          وأما الإجماع فهو أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي ، فمن ذلك احتجاج ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات ) ، ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعا .

          ومنها احتجاج الصحابة على فساد عقود الربا بقوله تعالى : ( وذروا ما بقي من الربا ) ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق " الحديث إلى آخره .

          وأما المعنى فمن وجهين :

          الأول : أنا أجمعنا على حمل بعض المناهي على الفساد كالنهي عن بيع الجزء المجهول ، ولو لم يكن ذلك مقتضى النهي لكان لأمر خارج ، والأصل عدمه فكان مقتضى النهي ، ويلزم منه الفساد حيث وجد ، وإلا كان فيه نفي المدلول مع تحقق دليله ، وهو ممتنع مخالف للأصل .

          الثاني : النهي مشارك للأمر في الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك ، والأمر دليل الصحة فليكن النهي دليل الفساد المقابل للصحة ، ضرورة كون النهي مقابلا للأمر ، وأنه يجب أن يكون حكم أحد المتقابلين مقابلا لحكم الآخر .

          [ ص: 191 ] ثم ما ذكرتموه منقوض بالنهي عن العبادة لعينها ، فإنا أجمعنا على أنها لا تصح ولو صرح الناهي بالصحة لكان متناقضا .

          وإن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لغة ، ولكن لا نسلم دلالته على الفساد من جهة المعنى .

          وما ذكرتموه من وجوب ترجيح مقصود النهي على مقصود الصحة فغايته أنه يناسب نفي الصحة ، وليس يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن يتبين له شاهد بالاعتبار .

          ولو بينتم له شاهدا بالاعتبار كان الفساد لازما من القياس ، لا من نفس النهي ولا من معناه .

          والجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد " من ثلاثة أوجه : الأول : لا نسلم أن الفعل المأتي به من حيث إنه سبب لترتب أحكامه عليه ليس من الدين حتى يكون مردودا .

          الثاني : أنه أراد به الفاعل وتقديره : من أدخل في ديننا ما ليس منه ، فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردودا أنه غير مثاب عليه ونحن نقول به .

          فإن قيل : عود الضمير إلى الفعل أولى إذ هو أقرب مذكور .

          قلنا : إلا أنه يلزم منه المعارضة بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ، ولا كذلك فيما إذا عاد إلى نفس الفاعل فكان عوده إلى الفاعل أولى .

          الثالث : أنه وإن عاد إلى نفس الفعل المنهي عنه إلا أن معنى كونه ردا أنه مردود بمعنى أنه غير مقبول ، وما لا يكون مقبولا هو الذي لا يكون مثابا عليه ، ولا يلزم من مثاب غير مثاب عليه أن لا يكون سببا لترتب أحكامه الخاصة به عليه ، وهو عين محل النزاع .

          وعن الحديث الآخر ما ذكرناه من الوجه الثاني والثالث .

          ثم وإن سلمنا دلالتهما على الفساد فليس في ذلك ما يدل على أن الفساد من مقتضيات النهي ، بل من دليل آخر وهو قوله : " فهو رد " ونحن لا ننكر ذلك [8] .

          [ ص: 192 ] وعن الإجماع لا نسلم صحة احتجاجهم بدلالة النهي لغة على الفساد ، بل إن صح ذلك فإنما يصح بالنظر إلى دلالة الالتزام على ما قررنا [9] ، ويجب الحمل عليه جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ، وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول من المعنى .

          وعن الثاني من المعنى أن النهي وإن كان مقابلا للأمر فلا نسلم أن الأمر مقتض للصحة ، حتى يكون النهي مقتضيا للفساد .

          وإن سلمنا اقتضاء الأمر للصحة وأن النهي مقابل له فلا نسلم لزوم اختلاف حكميهما لجواز اشتراك المتقابلات في لازم واحد .

          وإن سلم أنه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فيلزم أن لا يكون النهي مقتضيا للصحة .

          أما أن يكون مقتضيا للفساد فلا ، وأما النقض بالنهي عن العبادة فمندفع ، لأنه مهما كان النهي عن الفعل لعينه فلا يتصور أن يكون عبادة مأمورا بها ، وما لم يكن عبادة فلا يتصور صحته عبادة ، وإن قيل بفساده من جهة خروجه عن كونه سببا لترتيب الأحكام الخاصة به عليه فهو محل النزاع .

          وعن الاعتراض الأخير أنا لا نقضي بالفساد لوجود مناسب الفساد ليفتقر إلى شاهد بالاعتبار ، وإنما قضينا بالفساد لعدم المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام النهي لذلك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية