الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة : ( السادس : قتل صيد البر ، وهو ما كان وحشيا مباحا ، فأما صيد البحر والأهلي وما حرم أكله فلا شيء فيه إلا ما كان متولدا من مأكول وغيره ) .

وجملة ذلك : أن الحيوانات بالنسبة إلى المحرم قسمان : أحدهما : ما يباح له ذبح جميعه بلا شبهة ولا كراهة ، وهو الحيوان الإنسي من الإبل والبقر والغنم [ ص: 126 ] والدجاج والبط والحيوان البحري ; لأن الأصل حل جميع الحيوانات إلا ما حرم الله في كتابه ، وإنما حرم صيد البر خاصة قال تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم ) ، وفي قوله : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) مطلقا ، ثم أردفه بقوله : ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم ) بيان أن صيد البحر حلال لنا محلين كنا أو محرمين لا سيما وقد ذكر ذلك عقيب قوله : ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) إلى قوله : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) فكان هذا مبينا ومفسرا لما أطلقه في قوله : ( ليبلونكم الله بشيء من الصيد ) ، وفي قوله : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ، وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) وهذا مما أجمع عليه .

[ ص: 127 ] قال ابن أبي موسى : " والدجاج الأهلي ليس بصيد قولا واحدا " ، وفي الدجاج السندي روايتان : إحداهما : أنه صيد ، فإن أصابه محرم فعليه الجزاء .

والرواية الأخرى : ليس بصيد ولا جزاء فيه .

القسم الثاني : صيد البر فهذا يحرم عليه في الجملة ؛ لقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ) فإنما أباح لهم بهيمة الأنعام في حال كونهم غير مستحلي الصيد في إحرامهم ، وقال سبحانه ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ، وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا ) إلى قوله : ( ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) .

والصيد الذي يضمن بالجزاء ثلاث صفات ؛ أحدها : أن يكون أصله متوحشا سواء استأنس أو لم يستأنس ، وسواء كان مباحا أو مملوكا.

[ ص: 128 ] الثاني : أن يكون بريا وهو ما ....

الثالث : أن يكون مباحا أكله ، فإذا كان مباحا فإنه يضمن بغير خلاف كالظباء والأوعال والنعام ، ونحو ذلك ، وكذلك ما تولد من مأكول وغير مأكول ، كالعسبار : وهو ولد الذيبة من الضبعان ، والسمع : وهو ولد الضبع من الذيب ، وما تولد بين وحشي وأهلي .

فأما ما لا يؤكل : فقسمان ؛ أحدهما : يؤذي فالمأمور بقتله ، وما في معناه .

والثاني غير مؤذ : فالمباح قتله لا كفارة فيه ، وأما غير المؤذي فقال أبو بكر : كل ما قتل من الصيد مما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه في أحد قولي أحمد ، وفي الآخر يفدي الثعلب والسنور وما أشبه ذلك " ، وقال : ما يفدي المحرم من الدواب والسباع ؟ ..

قال القاضي - في المجرد - : والأمر على ما حكاه أبو بكر ، وقال ابن [ ص: 129 ] عقيل : ما لا يؤكل لحمه ولا يؤذي ففيه روايتان ؛ إحداهما : لا ضمان فيه .

قال - في رواية حنبل - إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله ، فأما السبع فلا أرى فيه كفارة .

وفي موضع آخر سألت أبا عبد الله عن أكل الضبع ؟ فقال : يؤكل ، لا بأس بأكله . قال : وكل ما يؤدى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل لحمه ، وقال في موضع آخر ، وفيها حكومة إذا أصابها المحرم ، قيل له : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع . قال أبو عبد الله : هذه خارجة منه ، وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وجعلها صيدا وأمر فيه بالجزاء إذا أصابه المحرم ، فكل ما ودي وحكم فيه : أكل لحمه " .

وكذلك قال في غير موضع محتجا على إباحتها : بأنها صيد ، يعني أن كل ما كان صيدا فهو مباح .

وعن أبي الحارث أنه سأله عن لحوم الحمر الوحشية ؟ فقال : هو صيد ، وقد جعل جزاؤه بدنة ، يعني أنه مباح .

وهذا اختيار أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأكثر أصحابنا . لكن ذكر ابن أبي موسى في الضفدع حكومة .

فعلى طريقته : يفرق بين ما نهي عن قتله ، كالضفدع والنملة والنحلة والهدهد [ ص: 130 ] والصرد ، وما لم ينه عن قتله ، وهذا اختيار القاضي وأصحابه ، وصرحوا بأنه لا جزاء في الثعلب إذا قلنا : لا يؤكل لحمه .

وحمل القاضي نص أحمد في الجزاء على الرواية التي يقول : يؤكل ، لكن لم يختلف نص أحمد وقول قدماء أصحابه : أن الثعلب يؤدى بكل حال .

والثانية : فيه الكفارة قال - في رواية ابن القاسم ، وسندي - : " في الثعلب الجزاء " ، قال أبو بكر الخلال : أكثر مذهبه - وإن كان يؤدى - فإنه عنده سبع لا يؤكل لحمه .

وقال أحمد - في رواية الميموني - : الثعلب يؤدى لتعظيم الحرمة ولا يلبسه ; لأنه سبع .

وقال - في رواية بكر بن محمد - وقد سئل عن محرم قتل ثعلبا : " قال : عليه الجزاء هو صيد ولكنه لا يؤكل " .

وقال عبد الله : " سألت أبي قلت : ما ترى في أكل الثعلب ؟ قال لا يعجبني ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ناب من السباع ، لا أعلم أحدا رخص فيه إلا عطاء ، فإنه قال : لا بأس بجلوده يصلى فيها ; لأنها تؤدى يعني في المحرم إذا أصابه عليه الجزاء " .

[ ص: 131 ] وقال : سمعت أبي يقول : كان عطاء يقول : كل شيء فيه جزاء يرخص فيه فنص على أنه يؤدى مع أنه سبع " .

وقال ابن منصور في السنور - الأهلي وغير الأهلي - : " حكومة " .

مع أن الأهلي لا يؤكل بغير خلاف ، والوحش : فيه روايتان .

وقال - في رواية أبي الحارث - : في الثعلب شاة ، وفي الأرنب شاة ، وفي اليربوع جفرة ، وكذلك الوبر فيها الجزاء مع أنه قد اختلفت الرواية عنه في إباحة الوبر واليربوع ، وحكي عنه الخلاف في الأرانب أيضا - وأم حبين فيها الجزاء في وجه ، وذكر القاضي - في بعض كتبه - وغيره أن المسألة رواية واحدة أنه لا جزاء إلا في المأكول ، وحمل نصوصه في الثعلب ونحوه على [ ص: 132 ] القول بأكله ، ونصه في السنور الأهلي على الاستحباب .

وهذه الطريقة : غلط ، فإنه قد نص على وجوب الجزاء في الثعلب مع حكمه بأنه سبع محرم ، واختار ذلك الخلال وغيره .

فعلى هذه الطريقة : يضمن ما تعارض فيه دليل الحظر والإباحة ، وإن قلنا : هو حرام قولا واحدا ، كالصرد والهدهد والخطاف والثعلب واليربوع والجفرة ، كما يضمن السمع والعسبار ، كما قلنا في المجوس - لما تعارض فيهم سنة أهل الكتاب وسنة المشركين - : حرم طعامهم ونساؤهم كالمشركين ، وحرمت دماؤهم بالجزية كأهل الكتاب .

فكذلك هذه الدواب التي تشبه السباع ونحوها من المحرمات ، وتشبه البهائم المباحة : يحرم على المحرم قتلها ويديها كالمأكول ، ولا يؤكل لحمها كالسباع .

[ ص: 133 ] وعلى طريقة أبي بكر وغيره فجميع الدواب المحرمة إذا لم تؤد : روايتان كالسنور الأهلي .

فوجه الأول : أن الله سبحانه قال ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) بعد قوله : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) .

فلما أباح صيد البحر مطلقا ، وحرم صيد البر ما دمنا محرمين : علم أن الصيد المحرم بالإحرام هو ما أبيح في الإحلال ; لأنه علق تحريمه بالإحرام ، وما هو محرم في نفسه لا يعلق تحريمه بالإحرام ، فعلم أن صيد البر مباح بعد الإحلال ، كما نصه في قوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ، وكذلك قوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) فإنه يقتضي إبانة إحلاله ونحن حلال .

وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار قال : سألت جابر بن عبد الله : الضبع آكلها ؟ قال : نعم . قلت : أصيد هي ؟ قال : نعم ، قال : سمعت ذاك من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم " . رواه ...

[ ص: 134 ] فلولا أن الصيد عندهم هو الذي يؤكل لم يسأل : أصيد هي أم لا ؟ ولولا أن الصيد نوع من الوحشي لم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها أنها صيد ، ولو كان كونها صيدا باللغة أو بالعرف لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فإنه إنما بعث لتعليم الشرع ، فلما أخبر أنها صيد علم أن كون البهيمة صيدا حكم شرعي ، وما ذاك إلا أنه هو الذي يحل أكله .

ووجه الثاني : .........

وقد روي عنه في الضفدع روايتان :

إحداهما : لا شيء فيه . قال - في رواية ابن منصور - : لا أعرف في الضفدع حكومة ، ومن أين يكون فيه حكومة وقد نهي عن قتله ؟ وهذا قياس الرواية الأولى عنه .

والثانية : فيه الجزاء . قال - في رواية عبد الله - : هشيم ثنا حجاج عن عطاء قال : ما كان يعيش في البر والبحر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه نحو السلحفاة والسرطان والضفادع .

[ ص: 135 ] وظاهره أنه أخذ بذلك وكذلك ذكره أبو بكر ، وهذا قول ابن أبي موسى .

فعلى هذا كل ما يضمن فإن قتله حرام بلا تردد وهو من الكبائر ; لأن أصحابنا قالوا : يفسق بفعله عمدا .

وما لا يضمن ، قال أحمد - في رواية حنبل - : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب والسبع وكل ما عدا من السباع ، ولا كفارة عليه ويقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب ولا كفارة .

فإن قتل شيئا من هذه من غير أن يعدو عليه ، فلا كفارة عليه ولا ينبغي له .

وفي لفظ : يقتل المحرم الحدأ والغراب الأبقع ، والزنبور والحية والعقرب والفأرة ، والذئب والسبع ، والكلب ، ويقتل القرد ، وكل ما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه ، ويقتل النسر والعقاب ، ولا كفارة عليه شبيه بالحدأ ; لأن النبي [ ص: 136 ] - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلها محرما وغير محرم ، وهو يخطف ولا كفارة عليه ، وإنما جعلت الكفارة والجزاء في الصيد المحلل أكله ، وهذا سبع فلا كفارة ولا بأس أن يقتل الذر .

وقال - في رواية أبي الحارث - يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد .

وقال - في رواية مهنا - يقتل القمل ، ويقتل المحرم النملة إذا عضته ، ولا يقتل النحلة فإن آذته قتلها ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الذر ، والصرد ، والصرد طير .

وقال - في رواية ابن منصور - : يقرد المحرم بعيره .

وقال - في رواية عبد الله والمروذي - : يقتل المحرم الغراب والحدأة والعقرب والكلب العقور ، وكل سبع عدا عليك ، أو عقرك ، ولا كفارة عليك .

وجملة هذا : أن ما آذى الناس أو آذى أموالهم فإن قتله مباح ، سواء كان قد وجد منه الأذى كالسبع الذي قد عدا على المحرم أو لا يؤمن أذاه ، مثل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور ، فإن هذه الدواب ونحوها تدخل بين الناس من حيث لا يشعرون ، ويعم بلواهم بها فأذاهم بها غير مأمون ، قال أصحابنا : قتلها مستحب ، وهذا إجماع ; وذلك لما روى ابن عمر قال : [ ص: 137 ] حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقتل المحرم الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب " .

عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " ، وفي لفظ : " في الحل والحرم " . متفق عليه .

وفي لفظ لمسلم : " والغراب الأبقع " .

وفي رواية للنسائي وابن ماجه : " خمس يقتلهن المحرم ؛ الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور " .

وفي رواية قالت حفصة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن ، الغراب والفأرة والحدأة والعقرب والكلب العقور " متفق عليه .

[ ص: 138 ] وفي رواية لمسلم أنه سأله رجل ما يقتل من الدواب وهو محرم ؟ فقال حدثتني إحدى نسوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية ، قال وفي الصلاة أيضا ، وفي رواية لمسلم : قالت حفصة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس من الدواب كلها فواسق لا حرج على من قتلهن وذكره " .

وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح ؛ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " . رواه الجماعة إلا الترمذي .

وفي رواية لمسلم وغيره : " لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام " .

وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس كلهن فاسقة يقتلهن المحرم ولا يقتلن في الحرم ؛ الفأرة والعقرب والحية والكلب العقور والغراب " . رواه أحمد .

[ ص: 139 ] وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " خمس قتلهن حلال في الحرم ؛ الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور " .

وعن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سئل عما يقتل المحرم ؟ قال : الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة والسبع العادي " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، والترمذي وقال : حديث حسن ، وذكره أحمد في رواية الفضل بن زياد .

فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يؤذي الناس في أنفسهم وأموالهم ، وسماهن فواسق لخروجهن على الناس .

ولم يكن قوله ( خمس ) على سبيل الحصر ; لأن في أحد الحديثين ذكر الحية ، وفي الآخر ذكر العقرب ، وفي آخر ذكرها وذكر السبع العادي ، فعلم أنه قصد بيان ما تمس الحاجة إليه كثيرا وهو هذه الدواب وعلل ذلك بفسوقها ; لأن تعليق الحكم بالاسم المشتق المناسب يقتضي أن ما منه الاشتقاق علة للحكم ، فحيث ما وجدت دابة فاسقة ، وهي التي تضر الناس وتؤذيهم جاز قتلها.

[ ص: 140 ] وقوله - في حديث أبي سعيد - : " يرمي الغراب ولا يقتله " . إما أن يكون منسوخا بحديث ابن عمر ، وابن عباس وأبي هريرة وعائشة ; لأن الرخصة بعد النهي لئلا يلزم التغيير مرتين ، أو يكون رميه هو الأولى وقتله جائزا .

فأما ما هو مضر في الجملة لكن ليس من شأنه أن يبتدئ الناس بالأذى في مساكنهم ومواضعهم ، وإنما إذا اجتمع بالناس في موضع واحد ، أو أتاه الناس آذاهم ، مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، مثل الأسد ، والنمر ، والذئب ، والدب ، والفهد ، والبازي ، والصقر ، والشاهين ، والباشق ، فهذا كالقسم الأول ، والمشهور عند أصحابنا المتأخرين مثل القاضي ومن بعده .

وقد نص - في رواية أبي الحارث - على أنه يقتل السبع عدا عليه ، أو لم يعد ، وكذلك ذكر أبو بكر وغيره قالوا : لأن الله إنما حرم قتل الصيد ، والصيد اسم للمباح كما تقدم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح قتل السبع العادي ، والعادي صفة للسبع سواء وجد منه العدوان ، أو لم يوجد . كما قال : الكلب العقور ، وكما يقال : السيف قاطع ، والخبز مشبع ، والماء مرو ; لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن فرق بين السبع وبين الصيد ، فإن الصيد إذا عدا عليه فإنه يقتله ، قالوا : ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من كل جنس أدناه ضررا لينبه بإباحة قتله على إباحة ما هو أعلى منه ضررا ، فنص على الفأرة تنبيها على ما هو أكبر منها من [ ص: 141 ] الحشرات ، وذكر الغراب تنبيها به على ما هو أكبر منه من الجوارح ، وذكر الكلب العقور ، وهو أدنى السباع تنبيها به على سائر السباع .

قالوا : وفحوى الخطاب تنبيهه الذي هو مفهوم الموافقة أقوى من دليله الذي هو مفهوم المخالفة ، وربما قالوا : الكلب العقور اسم لجميع السباع ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعائه على عتبة بن أبي لهب : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فأكله السبع " .

[ ص: 142 ] وعنه رواية أخرى : أنه إنما يقتل إذا عدا عليه بالفعل ، فإذا لم يعد فلا ينبغي قتله ; لأنه قال - في رواية حنبل - : فإن قتل شيئا من هذه من غير أن تعدو عليه فلا كفارة عليه ولا ينبغي له .

وقال أيضا - : يقتل ما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه .

فخص قتله بما إذا عدا عليه أو بما إذا عدا في الرواية الأخرى ، وهذا يقتضي أنه لا يقتله إذا لم يعد . ولو أراد أبو عبد الله : أن العدوان صفة لازمة للسبع لم يقل : كل ما عدا من السباع ، فإن جميع السباع عادية بمعنى أنها تفترس ولذلك حرم أكلها ، فعلم أنه أراد عدوانا تنشئه وتفعله ، فلا تقصد في مواضعها ومساكنها فتقتل ، إلا أن يقصد ما من شأنه أن يعدو على بني آدم كالأسد ، فيقتل الذي من شأنه أن يعدو دون أولادها الصغار ، ودون ما لا يعدو على الناس . وهذا مذهب مالك ، فينظر وهو قول أبي بكر ; لأنه قال : يقتل السبع مطلقا ول الهم .

وقال - في رواية عبد الله - : ويقتل الحية والعقرب والكلب العقور ، وكل سبع عدا عليك أو عقرك .

[ ص: 143 ] فنص على أن المقتول من السباع هو الذي يعدو على المحرم ويريد عقره ، وهذه الرواية أصح إن شاء الله وهي اختيار .... لوجوه :

أحدها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد بهذا الحديث الإذن في قتل كل ما لا يؤكل لقال : يقتل كل ما لا يؤكل ، ويقتل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أوتي جوامع الكلم ، ألا تراه لما أراد النهي عنها قال : " كل ذي ناب من السباع حرام " . ولم يعدد أنواعا منها .

الثاني : أنه سئل عما يقتل المحرم من الدواب .

الثالث : أنه علل الحكم بأنهن فواسق ، والفاسق هو الذي يخرج على غيره ابتداء بأن يقصده في موضعه ، أما من لا يخرج حتى يقصد في موضعه فليس بفاسق .

الرابع : أنه خص الكلب العقور ، ولو قصد ما لا يؤكل ، أو ما هو سبع في [ ص: 144 ] الجملة لم يخص العقور من غيره ، فإن الكلب سبع من السباع ، وأكله حرام .

الخامس : أنه ذكر من الدواب والطير ما يأتي الناس في مواضعهم ، ويعم بلواهم به بحيث لا يمكنهم الاحتراز منه في الغالب إلا بقتله ، مثل الحديا ، والغراب ، والحية ، والعقرب . ومعلوم أن هذا وصف مناسب للحكم فلا يجوز إهداره عن الاعتبار ، وإثبات الحكم بدونه إلا بنص آخر .

السادس : أنه قال : والسبع العادي ، ولا يجوز أن يكون العدوان صفة لازمة ، بل يجب أن يكون المراد به السبع الذي يعتدي ، أو السبع إذا اعتدى ونحو ذلك أو السبع الذي من شأنه أن يعتدي على الناس فيأتيهم في أماكنهم ، ونحو ذلك . كما يقال : الرجل الظالم ، كما قال : الكلب العقور ، فكان ذلك نوعا خاصا من الكلاب ; فلذلك هذا يجب أن يكون نوعا خاصا من السباع لوجوه :

أحدها : أنه لو كان المراد به العدوان الذي في طباع السباع وهو كونه يفترس غيره من الحيوان لكانت جميع السباع عادية بهذا الاعتبار فتبقى الصفة ضائعة ، وهذا وإن كان قد يأتي للتوكيد في بعض المواضع ، لكن الأصل فيه التقييد لا سيما وهو لم يذكر ذلك في الحية والعقرب مع أن العدوان صفة لازمة لهما ، فعلم أنه أراد صفة تخص بعض السباع .

الثاني : أن الأصل في الصفات أن تكون لتمييز الموصوف مما شاركه في الاسم وتقييد الحكم بها ، وقد تجيء لبيان حال الموصوف وإظهاره وإيضاحه ، لكن هذا خلاف للأصل ، وإنما يكون إذا كان في إظهار الصفة فائدة من مدح أو ذم أو تنبيه على شيء خفي أو غير ذلك وهنا قال : العادي ، فيجب أن يكون العادي تقييدا للسبع أو إخراجا للسبع الذي ليس [ ص: 145 ] بعاد ، إذ إرادة عدوان لازم : مخالف للأصل ، ثم ذلك العدوان الطبيعي معلوم بنفس قوله : سبع ، فلا فائدة في ذكره .

الثالث : أن العدوان الذي هو فعل السبع معلوم قطعا ، والعدوان الذي هو طبعه يجوز أن يكون مرادا ، ويجوز أن لا يكون مرادا فلا يثبت بالشك .

السابع : أن كثيرا من الدواب قد نهي عن قتلها في الإحلال ، مثل الضفدع ، والنملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد ، فكيف يكون في الإحرام ؟ وقد قال في الفواسق : " يقتلن في الحل والحرم " .

الثامن : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الكلاب : " لولا أنها أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها كل أسود بهيم " متفق عليه .

وهذا يقتضي أن كونها أمة وصف يمنع من استيعابها بالقتل لتبقى هذه الأمة تعبد الله وتسبحه ، نعم خص منها ما يضر بني آدم ويشق عليهم الاحتراز منه ; [ ص: 146 ] لأن رعاية جانبهم أولى من رعاية جانبه ، ويبقى ما يمكنهم الاحتراز منه على العموم .

فعلى هذا قتله : حرام ، أو مكروه ، وبكل حال لا جزاء فيه . نص عليه .

وإذا لم يقتل هذا ، فغيره مما لا يؤكل لحمه ولا في طبعه الأذى أولى أن لا يقتل .

قال ابن أبي موسى : للمحرم أن يقتل الحية ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، والأسود البهيم ، والسبع ، والذئب ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والزنبور ، والقرد ، والنسر ، والعقاب إذا وثب عليه ، والبق ، والبعوض ، والحلم ، والقردان ، وكل ما عدا عليه وآذاه ولا فدية عليه .

فأما على الرواية الأولى : فقال أبو الخطاب : يباح قتل كل ما فيه مضرة كالحية والعقرب ، وسمى ما تقدم ذكره ، وقال : والبرغوث والبق والبعوض والقراد والوزغ وسائر الحشرات والذباب ، ويقتل النمل إذا آذاه .

وقال القاضي وابن عقيل : الحيوانات التي لا تؤكل ثلاثة أقسام ، قسم يضر [ ص: 147 ] ولا ينفع : كالأسد والذئب والجرجس والبق والبرغوث والبعوض والعلق والقراد ، فهذا يستحب قتله .

الثاني : ما يضر وينفع : كالبازي والفهد وسائر الجوارح من الطير والمخلب الذي ليس بمعلم ، فقتله جائز لا يكره ولا يستحب .

الثالث : ما لا يضر ولا ينفع : كالخنافس والجعلان وبنات وردان والرخم والذباب والنحل ، والنمل إذا لم يلسعه يكره قتله ولا يحرم .

وأما الذباب : فذكره ابن عقيل في القسم ... ، وهو ما يضر ولا ينفع ، وذكره القاضي في القسم الثالث ، وهو ما لا يضر ولا ينفع ، وقد تقدم الكلام على القسم الأول وذكرنا الروايتين فيه .

وأما القسم الثاني والثالث : فالمنصوص عنه المنع من قتله كما تقدم ما لم يضر ، ثم قد أدخلوا فيه الكلب ، والمذهب أن قتله حرام .

وأما الذباب : فقد ذكره أبو الخطاب وابن عقيل : من المؤذي ، وذكره القاضي : فيما لا يؤذي وهذا على قولنا لا يجوز أكله ، فأما إذا قلنا يجوز أكله فينبغي أن يضمن .

[ ص: 148 ] وأما الذر : فقد روى عنه لا بأس أن يقتله ، وقال في الرواية الأخرى : " قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الذر " .

وقال ابن أبي موسى : " ويكره له أن يقتل القملة ، ولا يقتل النملة في حل ولا حرم ولا يقتل الضفدع ، وهذه المنهيات عن قتلها ، مثل الصرد والنحلة والنملة ، مرد .... هل هو منع تنزيه أو تحريم ؟ قال ابن أبي موسى : ولا يقتل النمل في حل ولا حرم ولا الضفدع ، وظاهر كلام أحمد التحريم ، قال - في رواية مهنا - وقد سأله عن قتل النحلة والنملة ، فقال : " إذا آذته قتلها " ، فقيل له : أليس قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النحلة ؟ قال : نعم قد نهى عن قتل النحل والصرد وهو طير " .

وقال - في رواية عبد الله وأبي الحارث - في الضفادع لا تؤكل ولا تقتل : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع " .

وقال - في رواية ابن القاسم - وقال له يا أبا عبد الله الضفدع لا يؤكل ؟ فغضب وقال : " النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يجعل في الدواء من يأكله ! " . فهذا يقتضي أن قتلها وأكلها سواء وأنه محرم .

[ ص: 149 ] فأما إذا عضته النحلة أو النملة أو تعلق القراد ببعيره ، ونحو ذلك ، فإنه يقتله ، وإن أمكن دفع أدناه بدون ذلك بحيث له أن يقتل النملة بعد أن تقرصه.

التالي السابق


الخدمات العلمية