الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 16 ] ولما أخبر (تعالى) أنه لا بد من إيجاد ما وعد به؛ من البعث وغيره؛ وحذر كل التحذير من التهاون بأمره؛ وأنكر التسوية بين المصدق به؛ والمكذب؛ وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى؛ الذي يغشى سماء العقل؛ ويعلوه بسحابه المظلم؛ فيحول بينه وبين النفوذ؛ وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض؛ المحيي لميت الحبوب الهوى؛ وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالا على القدرة بالاختيار؛ قال - عاطفا على جملة "إن وعد الله حق"؛ المبني على النظر؛ وهو الإخراج من العدم؛ مبينا لقدرته على ما وعد به -: والله ؛ أي: الذي له صفات الكمال؛ لا شيء غيره؛ من طبيعة؛ ولا غيرها؛ الذي ؛ ولما كان المراد الإيجاد من العدم؛ عبر بالماضي؛ مسندا إليه؛ لأنه الفاعل الحقيقي؛ فقال: أرسل الرياح ؛ أي: أوجدها من العدم مضطربة؛ فيها أهلية الاضطراب والسير؛ ليصرفها كيف شاء؛ لا ثابتة كالأرض؛ وأسكنها ما بين الخافقين؛ لصلاح مكان الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضا؛ قال - مسندا إلى الرياح؛ لأنها السبب؛ معبرا بالمضارع؛ حكاية للحال؛ لتستحضر تلك الصورة البديعة؛ الدالة على تمام القدرة؛ وهكذا تفعل العرب فيما فيه [ ص: 17 ] غرابة؛ تنبيها للسامع على ذلك؛ وحثا له على تدبره؛ وتصوره -: فتثير ؛ أي: بتحريكه لها؛ إذا أراد؛ سحابا ؛ أي: إنه أجرى - سبحانه - سنته أن تظهر حكمته بالتدريج.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث؛ وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت؛ عبر بالمضارع؛ ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر؛ وسقيه لمكان دون مكان؛ من العظمة بمكان؛ التفت عن الغيبة؛ وجعله في مظهر العظمة؛ فقال: فسقناه ؛ أي: السحاب؛ معبرا بالماضي؛ تنبيها على أن كل سوق كان بعد إثارتها - في الماضي؛ والمستقبل - منه وحده؛ أو بواسطة من أقامه لذلك من جنده من الملائكة؛ أو غيرهم؛ لا من غيره؛ ودل على أنه فرق بين البعد؛ والقرب؛ بحرف الغاية؛ فقال: إلى بلد ميت

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان السبب في الحياة هو السحاب؛ بما ينشأ عنه من الماء؛ قال: فأحيينا به الأرض ؛ ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث؛ الذي هم به مكذبون؛ قال - رافعا للمجاز بكل تقدير؛ وموضحا كل الإيضاح للتصوير -: بعد موتها ؛ ولما أوصل الأمر إلى غايته؛ زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني؛ بقوله: كذلك ؛ أي: مثل الإحياء لميت النبات؛ النشور ؛ حسا للأموات؛ ومعنى للقلوب؛ والنبات؛ قال القشيري: [ ص: 18 ] إذا أراد إحياء قلب؛ يرسل أولا رياح الرجاء؛ ويزعج بها كوامن الإرادة؛ ثم ينشئ فيه سحاب الاهتياج؛ ولوعة الانزعاج؛ ثم يأتي مطر الحق؛ فينبت في القلب أزهار البسط؛ وأنوار الروح؛ ويطيب لصاحبه العيش؛ إلى أن تتم لطائف الأنس.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية