الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة : ( ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج ، فيتحلل بطواف وسعي ، وينحر هديا إن كان معه ، وعليه القضاء ) .

في هذا الكلام فصول ، أحدها : أنه يجب على الرجل إذا أحرم بالحج أن [ ص: 656 ] يقصد الوقوف بعرفة في وقته ، ولا يجوز له التباطؤ حتى يفوته الحج ، فإن احتاج إلى سير شديد .... ، وإن لم يصل العشاء إلى آخر ليلة النحر ، وخاف إن نزل لها فاته الحج ، فقياس المذهب أنه يصلي صلاة الخائف ؛ لأن تفويت كل واحدة من العبادتين غير جائز ، وفوات الحج أعظم ضررا في دينه ونفسه من فوت قتل كافر .

فإذا طلع الفجر ولم يواف عرفة ، فقد فاته الحج ، سواء فاته لعذر من مرض ، أو عدو ، أو ضل الطريق ، أو أخطأ العدد ، أو أخطأ مسيره ، أو فاته بغير عذر كالتواني والتشاغل بما لا يعنيه ، لا يفترقان إلا في الإثم . وعلى من فاته أن يأتي بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر .

وأما الأفعال التي تخص الحج من الوقوف بمزدلفة ومنى ورمي الجمار فقد سقطت ، هذا هو المعروف في المذهب الذي عليه أصحابنا ، وهو المنصوص عن أحمد .

قال - في رواية أبي طالب - : إذا فاته الحج تحلل بعمرة .

وقال - في رواية الأثرم - فيمن قدم حاجا فطاف وسعى ثم مرض فحيل بينه وبين الحج حتى مضت أيامه : يحل بعمرة ، فقيل له : يجدد إهلالا فيمن [ ص: 657 ] فاته الحج للعمرة أم يجزئه الإهلال الأول ؟ فقال : يجزئه الإهلال الأول .

وقد حكى ابن أبي موسى - عنه - رواية ثانية : أنه يمضي في حج فاسد ، قال : ومن فاته الحج بغير إحصار تحلل بعمرة في إحدى الروايتين ، وعليه الحج من قابل ودم الفوات ، فإن كان قد ساق هديا نحره ولم يجزه عن دم الفوات .

والرواية الأخرى : يمضي في حج فاسد ، ويحج من قابل ، وعليه دم الفوات .

وقال أحمد - في رواية ابن القاسم - في الذي يفوته الحج : يفرغ من عمله يعني عمل الحج ، وفسر القاضي هذا الكلام بأنه الطواف والسعي والحلق الذي يفعله الذي كان واجبا بالحج كأحد الوجهين - كما سيأتي - .

ومن فسره بإتمام الحج مطلقا على ظاهره ، قال : لأنه قد وجب عليه فعل جميع المناسك ، ففوات الوقوف بعرفة لا يسقط ما أدرك وقته من المناسك ، كمن عجز عن بعض أركان الصلاة وقدر على بعض ، أكثر ما فيه أن الحج قد انتقض وفسد ، فأشبه من أفسده بالوطء فإنه يمضي في حج فاسد .

والصواب هو الأول ، لأن الله سبحانه قال : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) الآية ، فأمرهم بالذكر عقب الإفاضة من عرفات ، فمن لم يفض من عرفات لم يكن مأمورا بالوقوف بالمشعر الحرام ، وما لا يؤمر به من أفعال الحج فهو منهي عنه كالوقوف بعرفة في غير وقته .

ولأن الحكم المعلق بالشرط معدوم بعدمه ، فإذا علق الوقوف بالمشعر الحرام بالإفاضة من عرفة اقتضي عدمه عند عدم الإفاضة من عرفات .

[ ص: 658 ] ولأن الآية تقتضي أنه مأمور بالذكر عند المشعر حين الإفاضة وعقبها ، فإذا بطل الوقت الذي أمر بالذكر عند المشعر الحرام فيه ، وبطل التعقيب كان قد فات وقت الوقف بالمشعر وشرطه ، وذلك يمنع الوقوف فيه ، ونظير هذا قوله : ( فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فإنها دليل على امتناع الطواف بهما من غير الحاج والمعتمر ؛ ولذلك لا يشرع الطواف بالصفا والمروة إلا في حج أو عمرة ، بخلاف الطواف بالبيت ، فإنه عبادة منفردة أفردها بالذكر في قوله : ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ، ثم قال بعد ذلك : ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) إلى قوله : ( واذكروا الله في أيام معدودات ) ، فالأمر بالذكر كذكر الآباء والذكر في أيام معدودات هو بعد قضاء المناسك ، ومن لم يقف بعرفة لم يقض مناسكه ، فبطل في حقه الذكر المأمور به الذي يتضمن التعجل والتأخر ، ولا يقال : واذكروا الله في أيام معدودات كلام مبتدأ .

وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج عرفة ، من جاء من ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " .

فإذا لم يدرك عرفة : فلا حج له ، بل قد فاته الحج ، ومن لا حج له لا يجوز أن [ ص: 659 ] يفعل شيئا من أعمال الحج ؛ لأنه يكون في حج من لا حج له ، وهذا لا يجوز ، بخلاف المفسد ، فإنه في حج تام ، لأنه أدرك الوقوف لكن هو فاسد . وغير ممتنع انقسام العمل إلى صحيح وفاسد . أما أن يكون في حج من ليس في حج ، فهذا ممتنع ؛ ولهذا قلنا : إذا فاته الحج لم يفعل ما يختص بالحج من المواقف والرمي ، وإنما يفعل ما اشترك فيه الحج والعمرة من الطواف والحلق .

وأيضا : قوله : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا " .

وأيضا : فما روى ابن أبي ليلى عن عطاء أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من لم يدرك فعليه دم ويجعلها عمرة ، وعليه الحج من قابل " رواه النجاد .

وهذا وإن كان مرسلا من مراسيل عطاء ، فهو أعلم التابعين بالمناسك ، وهذا المرسل معه أقوال الصحابة ، وقول جماهير أهل العلم وظاهر القرآن ، وذلك يوجب كونه حجة وفاقا بين الفقهاء .

[ ص: 660 ] والعمدة الظاهرة إجماع الصحابة ، والتا .... ، فعن .... " أن أبا أيوب بن زيد خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية أضل رواحله فطلبهن ، فقدم وقد فاته الحج ، فسأل عمر فأمره أن يجعلها عمرة ويحج من عام المقبل ، وعليه ما استيسر من الهدي " .

وعن سليمان بن يسار عن هناد بن الأسود : " أنه أهل بالحج ، فقدم على عمر - رضي الله عنه - يوم النحر ، وقد أخطأ العدد ، فقال : أهل بعمرة وطف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وقصر أو احلق ، وحج من قابل وأهرق دما " .

[ ص: 661 ] وعن الأسود عن عمر وزيد قالا في رجل يفوته الحج : " يهل بعمرة ، عليه الحج من قابل " .

وعن ابن عمر كان يقول : " من لم يقف بعرفة إلا بعد طلوع الفجر فقد فاته الحج ، وليجعلها عمرة ، وليحج قابلا ، وليهد إن وجد هديا ، وإلا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .

وعن عطاء عن ابن عباس : " من فاته الحج فإنه يهل بعمرة وليس عليه الحج " رواهن النجاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية