الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 49 ] فصل : [ غزوة الحديبية ]

                                                                                                                                            ثم غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الحديبية ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا أصحابه إلى العمرة فتهيئوا وأسرعوا ، فدخل بيته ، فاغتسل ، ولبس ثوبين ، وركب راحلته القصوى ، وخرج في يوم الاثنين هلال ذي القعدة في ألف وستمائة .

                                                                                                                                            وقيل : ألف وأربعمائة ، ومعه زوجته أم سلمة ، وصلى الظهر بذي الحليفة ، وساق سبعين بدنة منها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر ، فحللها وأشعرها في الشق الأيمن وقلدها ، وهن موجهات إلى القبلة ، ثم أحرم بالعمرة ، ولبى وقدم أمامه عباد بن بشر في عشرين فارسا من المهاجرين والأنصار طليعة ، وبلغ قريشا مسيره ، فأجمعوا رأيهم على صده عن المسجد الحرام ، وعسكروا ببلدح ، وقدموا خالد بن الوليد في مائتي فارس إلى كراع الغميم ، فوقف عباد بن بشر في خيله بإزائه ، وحانت صلاة الظهر فصلاها بأصحابه في عسفان ، صلاة الأمن وحانت صلاة العصر ، وقربت خيل خالد بن الوليد ، فصلى العصر بأصحابه صلاة الخوف ، ثم صار إلى الحديبية حتى دنا منها ، وهي طرف الحرم على سبعة أميال من مكة ، فبركت ناقته القصواء فزجروها ، فأبت أن تنبعث فقالوا : خلأت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : رجعت ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل ، أما والله لا يسألوني اليوم خطة فيها تعظيم حرمة لله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها ، فقامت ، فولى راجعا عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد الحديبية قليل الماء ، فانتزع سيفا من كنانته ، فأمر به ، فغرس فيها ، فجاشت لهم بالرواء حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر ، ومطروا بالحديبية حتى كثرت المياه ، وجاءه بديل بن ورقاء في ركب من خزاعة ، وقال : قد جئناك من عند قومك وإنهم جمعوا لك من أطاعهم ، وأقسموا بالله أنهم لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد ضفراءهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما جئنا لقتال ، وإنما جئنا للطواف بهذا البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ولم يكن مع أصحابه سلاح إلا سيوف المسافرين في أغمادها ، فعاد بديل بن ورقاء إلى قريش ، فأخبرهم بذلك : فبعثوا عروة بن مسعود [ ص: 50 ] الثقفي ، فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك ، وبعث عثمان بن عفان بعد أن بعث قبله خراش بن أمية الكعبي ، وأمره أن ينبئ قريشا أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا زوارا لهذا البيت ، ومعنا هدي ننحره ، وننصرف ، فأتاهم عثمان ، وأخبرهم بذلك ، فقالوا : لا كان هذا أبدا ، ولا يدخلها في هذا العام ، وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قتل فبايع أصحابه بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وبايع لعثمان بشماله على يمينه ، وجعلت الرسل تختلف حتى أجمعوا على الصلح والموادعة ، فبعثوا سهيل بن عمرو في عدة من رجالهم لعقد الصلح ومعه عثمان بن عفان ، فكتب بينه وبينهم : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض على أنه لا أسلال ولا أغلال ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده دخل ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل ، وأنه من أتى منهم محمدا بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتاهم من أصحاب محمد لم يردوه ، وأن محمدا يرجع في عامه هذا بأصحابه ، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثا لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب .

                                                                                                                                            شهد أبو بكر بن أبي قحافة ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان ، وأبو عبيدة بن الجراح ، ومحمد بن مسلمة ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص ، وكتب علي بن أبي طالب صدر هذا الكتاب ، وكتب علي نسختين إحداهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخرى مع سهيل بن عمرو ، وتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن ندخل في عهد محمد وعقده وتواثبت بنو بكر ، وقالوا : نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم ، وخرج أبو جندل بن سهيل بن عمرو من مكة يجعل في قيده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل : هذا أول من أقاضيك عليه فرده إليه ، وقال لأبي جندل : قد تم الصلح بيننا وبين القوم ، فاصبر حتى يجعل الله لك فرجا ومخرجا ، وانطلق سهيل ، فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه ، وحلق شعره ، حلقه خراش بن أمية الكعبي ، وحلق بعض أصحابه وقصر بعضهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا ، فقيل : والمقصرين يا رسول الله ، فقال في الرابعة : والمقصرين ، وأقام بالحديبية بضع عشرة يوما .

                                                                                                                                            وقيل : عشرين يوما فلما بلغ كراع الغميم نزل عليه : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ الفتح : 1 ] . فقرأها على الناس ، فقال رجل : أوفتح هو ؟ قال إي والذي نفسي بيده ، إنه لفتح فهنأه المسلمون ، وهنأ بعضهم بعضا ، وذكر جابر أن عطشا أصابهم ، فأتي [ ص: 51 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتور فيه ماء ، فوضع يده فيه : فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ، كأنها العيون حتى ارتوى جميع الناس ، وسميت هذه السنة عام الحديبية : لأنها أعظم ما كان فيها ، وكان أبرك عام وأيمن صلح ، فإنه أسلم فيه من الناس أكثر من جميع من أسلم من قبل ، وقرئ في عقد هذا الصلح ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : أن جماعة الصحابة كرهوه حتى قال عمر بن الخطاب لرسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " ألست رسول الله ؟ قال : بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال : وأنا عبد الله ورسوله ، ولن أخالف أمره . فكان عمر يقول : ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما كانت الصحيفة ابتدأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو نعرف الله ، وما نعرف الرحمن الرحيم ، فكتب سهيل باسمك اللهم على ما كانوا عليه في الجاهلية ، وكتب هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سهيل : لو علمنا أنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نازعناك ، فقال لعلي : اكتب محمد بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله ، لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة ، فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وقال لعلي : إنك ستسام إلى مثلها فتجيب ، فكان ما دعي إليه في التحكيم في محو اسمه من إمارة المؤمنين .

                                                                                                                                            والثالث : أنه لما أمر أصحابه بالنحر والحلق ، توقفوا ، فدخل على أم سلمة ، وشكى ذلك إليها ، فقالت : ابتدئ أنت بالنحر والحلق ، فإنهم سيتبعونك ، ففعل ذلك ، وفعلوا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية