الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : وأكره الأيمان على كل حال إلا فيما كان لله عز وجل طاعة ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فالاختيار أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الأيمان بالله ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان على ماض والكلام فيه يأتي .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما كان على فعل مستقبل ، وهو على خمسة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان عقدها ، والمقام عليها طاعة ، وحلها والحنث فيها معصية ، وهو أن يحلف على فعل الواجبات كقوله : والله لأصلين فرضي ، ولأزكين مالي ، ولأصوم من شهر رمضان ، ولأحجن البيت الحرام فعقدها والمقام عليها طاعة ؛ لأنها تأكيد لفعل ما فرضه الله تعالى عليه ، وحلها والحنث فيها بأن لا يصلي ولا يزكي ، ولا يصوم ، ولا يحج معصية ؛ لأنه ترك المفروض ، وهكذا لو حلف أن لا يفعل محظورا محرما كقوله : والله لا زنيت ولا سرقت ولا قتلت ولا شربت خمرا ولا قذفت محصنة ، كان عقدها باجتناب هذه المعاصي طاعة ، وحثها بارتكاب هذه المعاصي معصية .

                                                                                                                                            [ ص: 265 ] والقسم الثاني : ما كان عقدها والمقام عليها معصية ، وحلها والحنث فيها طاعة ، وهو قوله : والله لا صليت ولا زكيت ولا صمت ولا حججت ، فعقدها والمقام عليها بأن لا يصلي ولا يزكي معصية : لأنه ترك فيها مفروضا عليه ، وحلها والحنث فيها بأن يصلي ويزكي طاعة : لأنه فعل مفروضا عليه .

                                                                                                                                            وهكذا لو حلف على فعل المحظورات فقال : والله لأزنين ولأشربن خمرا ولأسرقن ولأقتلن كان عقدها والمقام عليها بالزنا والسرقة وغير ذلك معصية ، وحلها والحنث فيها طاعة بأن لا يزني ولا يشرب .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما كان عقدها والمقام عليها مستحبا ، وحلها والحنث فيها مكروها وهو قوله : والله لأصلين النوافل ولأتطوعن بالصدقة ، ولأصومن الأيام البيض ، ولأنفقن على الأقارب ، وما أشبه ذلك من الخيرات ، فعقدها والمقام عليها بفعل ذلك مستحب ، وحلها والحنث فيها بترك ذلك مكروه .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : ما كان عقدها والمقام عليها مكروها وحلها والحنث فيها مستحبا ، وهو عكس ما قدمناه فيقول : والله لا صليت نافلة ، ولا تطوعت بصدقة ولا صيام ، ولا أنفقت على ذي قرابة ، ولا عدت مريضا ، ولا شيعت جنازة ، فعقدها والمقام عليها مكروه ، وحلها والحنث فيها بفعل ذلك مستحب ، قد حلف أبو بكر أن لا يبر مسطحا ، وكان ابن خالته لأنه تكلم في الإفك ، فأنزل الله تعالى فيه : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى [ النور : 22 ] ، إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] ، فقال أبو بكر : بلى يا رب ، فبره وكفر .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : أن يحلف على ما فعله مباح وتركه مباح ، كقوله : والله لا دخلت هذه الدار ولا لبست هذا الثوب ، ولا أكلت هذا الطعام ، فعقدها ليس بمستحب . واختلف أصحابنا هل هو مباح أو مكروه ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن عقدها مباح ، وحلها مباح : لانعقادها على ما فعله مباح ، وتركه مباح .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو ظاهر كلامه هاهنا ، أن عقدها مكروه ، وحلها مكروه : لأنه قال : وأكره الأيمان على كل حال ، فيكون عقدها مكروها : لأنه ربما عجز عن الوفاء بها ، وحلها مكروها : لأنه جعل الله عرضة بيمينه وقد نهاه عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية