الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 299 ] باب الإطعام في الكفارة في البلدان كلها ومن له أن يطعم وغيره

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ويجزئ في كفارة اليمين مد بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قلنا يجزئ هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بعرق فيه تمر ، فدفعه إلى رجل وأمره أن يطعمه ستين مسكينا ، والعرق فيما يقدر خمسة عشر صاعا ، وذلك ستون مدا ، فلكل مسكين مد في كل بلاد سواء .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الكفارات تنقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            قسم وجب على الترتيب في جميعه .

                                                                                                                                            وقسم وجب على التخيير في بعضه والترتيب في بعضه ، فأما ما كان بوجوبه على الترتيب في جميعه ، فكفارة الظهار والقتل والوطء في شهر رمضان ، يبدأ بالعتق فإن لم يجده فالصيام ، فإن عجز عنه فالإطعام ، وأما ما كان وجوبه على التخيير فكفارة الأذى ، وهو مخير بين دم شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام ، وجزاء الصيد هو مخير بين مثله من النعم أو قيمة المثل طعاما أو عدل ذلك صياما ، وأما ما كان وجوبه على التخيير في بعضه ، والترتيب في بعضه فكفارة اليمين ، قال الله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] الآية ، فجعله مخيرا بين هذه الثلاثة ، ثم قال : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، فجعل الصيام مرتبا على العجز بعد المال ، فبدأ الشافعي بالإطعام ؛ لأن الله تعالى بدأ به لقوله : فكفارته إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] ، فنص على عدد المساكين أنهم عشرة ، فلا يجوز الاقتصار على أقل منهم لمخالفة النص ، وقال في طعام كل مسكين احتمالا لا يقدره بحد فقال : من أوسط ما تطعمون أهليكم فاختلف العلماء في قدر ما يطعم كل مسكين منهم على مذاهب شتى .

                                                                                                                                            أحدها : ما حكاه الحارث ، عن علي بن أبي طالب ، وقاله محمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري : إنه غداء وعشاء لكل مسكين .

                                                                                                                                            والثاني : ما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير أن يعتبر المكفر في عياله ، فإن كان يشبعهم أشبع المساكين ، وإن كان لا يشبعهم فيقدر ذلك في طعام المساكين .

                                                                                                                                            [ ص: 300 ] والثالث : ما قاله بعض فقهاء البصرة أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء .

                                                                                                                                            والرابع : ما قاله أبو حنيفة ، أنه إن كفر بالحنطة أعطى كل مسكين نصف صاع ، وإن كفر بالتمر أو الشعير أعطى كل مسكين صاعا ، وعنه في الزبيب روايتان :

                                                                                                                                            إحداهما : صاع كالتمر .

                                                                                                                                            والثانية : نصف صاع كالبر .

                                                                                                                                            والخامس : ما قاله الشافعي أنه يعطي كل مسلم مدا واحدا من أي صنف أخرج من الحبوب ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة - رضي الله عنهم - ومن التابعين عطاء وقتادة ، وهكذا كل كفارة أمسك عن تقدير الإطعام فيها ، مثل كفارة الظهار والقتل إذا قيل : إن في كفارة القتل إطعاما على أحد القولين يقدر إطعام كل مسكين بمد واحد في أي بلد كفر ، ومن أي جنس أخرج ، وقد تقدم الكلام فيه مع أبي حنيفة في كتاب الطهارة ، ومن الدليل عليه الكتاب والسنة والدليل .

                                                                                                                                            فأما الكتاب ، فقوله تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ المائدة : 89 ] فكان الأوسط محمولا على الجنس والقدر ، فأوسط القدر فيما يأكله كل إنسان رطلان من خبز ، والمد رطل وثلث من حب إذا أخبز كان رطلان من خبز هو أوسط الكفارة .

                                                                                                                                            وأما السنة فما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الواطئ في شهر رمضان أن يطعم ستين مسكينا فقال : لا أجد ، فأتي بفرق من تمر ، فقال : أطعمه ستين مسكينا ، والفرق : خمسة عشر صاعا يكون ستين مدا ، فجعل لكل مسكين مدا ، وأما الاستدلال فهو أن إطلاق الإطعام لو لم يقدر بالنص لكان معتبرا بالعرف ، وعرف من اعتدل أكله من الناس ، ولم يكن من المسرفين ولا من المقترين أن يكتفي بالمد في أكله ، وليس ينتهي إلى صاع ، هو عند أبي حنيفة ثمانية أرطال ، وما خرج عن الفرق لم يعتبر إلا بنص .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإطعام في فدية الأذى بمدين لكل مسكين ، فلما لا جعلتموه أصلا في كفارة اليمين وقدرتموه بمدين لكل مسكين ، قيل : لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما قدر في كفارة الواطئ بمد ، وفي كفارة الأذى بمدين ، وترددت كفارة اليمين بين أصلين وجب أن يعتبر الأقل لأنه تعين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما خففت فدية الأذى بالتخيير بين الصيام والإطعام تغلظت بمقدار الطعام ، ولما غلظت كفارة الأيمان بترتيب الإطعام على الصيام تخففت بمقدار الإطعام تعديلا بينهما في أن تتغلظ كل واحدة من وجه ، وتتخفف من وجه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية