الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفرع الثالث: الإلزام بأن يكون أسلوب مشاركة رأس المال كأحد عوامل الإنتاج، مع العوامل الأخرى يستهدف الإنتاج وليس مجرد الحصول على دخل (مادي)

          يمثل هـذا الإلزام الأداة الثالثة، من الأدوات التي يستخدمها الإسلام [ ص: 102 ] لتحقيق التنمية كأحد ضوابط المنهج الإسلامي لتشغيل المال، ويمكن أن أختصر هـذا في مصطلح واحد هـو استهداف الإنتاج. وأستدل على هـذه الأداة من تحليل المعاملات، التي أباح الإسلام التعامل بها. وهذه المعاملات معروفة على نحو تفصيلي، ويبقى أن نربط بينها وبين استهداف الإنتاج، كأحد أدوات التنمية في المنهج الإسلامي، أي نربط بينها لاستخلاص دلالتها الاقتصادية.

          إذا أخذنا المعاملات التي يمنع الإسلام أن يتعامل بها الناس نجد أن المعنى الذي يعمل الإسلام على وجوده، من خلال منع وتحريم هـذه الأشكال وأمثالها من المعاملات هـو: أن هـذه المعاملات ليست أعمالا منتجة اقتصاديا، والاقتصاديون أنفسهم يعتبرون الاحتكار كأحد أشكال المعاملات المحرمة شرعا ليس عملا منتجا، ولذلك لا يحق للمحتكر الحصول على دخل، لأنه لم يؤد للمجتمع أي نشاط منتج. وكذلك الغاش، وكذلك الراشي. ويعني هـذا أن الإسلام يلزم ويوجه أن يكون الاستثمار في معنى أن يستغل المال في نشاط اقتصادي منتج، فإذا مارس أي شخص مثل هـذه المعاملات الممنوعة والمحرمة شرعا فيكون الدخل الذي يحصل عليه دخلا حراما ويكون هـو آثما. وبجانب هـذه العقوبة، يكون على ولي الأمر منعه ومعاقبته.

          وإذا أخذنا المعاملات التي أباح الإسلام للناس أن يتعاملوا بها، وبحثنا عن المعاني الاقتصادية، التي يمكن أن نشتقها من المعاملات، نجد أن استهداف الإنتاج هـو أحد هـذه المعاني. وإذا أعدنا النظر في المعاملات التي أباحها الإسلام مثل المضاربة وغيرها، نجد أن استهداف أن يوجه الاستثمار إلى أنشطة اقتصادية منتجة، يكون هـدفا واضحا في هـذه الدراسة، وما أعيده من قبيل الاستنتاج.

          إن الإسلام قد جعل الإجارة ، هـي من صور الجائزة شرعا للسفينة والآلات المماثلة لها. وتعني الإجارة الحصول على عائد محدد نقدا لنوع من أنواع رءوس الأموال وهو الأموال الممثلة فيها آلات كالسفينة، وفي المقابل منع [ ص: 103 ] الإسلام أن يقرض رأس المال، الذي هـو في صورة نقدية مقابل عائد محدود، وهو ما يسمى شرعا بالربا ، ويستنتج من ذلك أن الأموال الممثلة في آلات لا يمكن عند اقتراضها أن تستخدم للاستهلاك المباشر، وإنما تستخدم بالضرورة في الإنتاج. لذلك كانت المعاملة المباحة لمثل هـذا المال هـي الإجارة حيث إن أخذها ليس أمامه إلا توجيهها للانتاج. وفي المقابل، إن الأموال الممثلة في نقد يمكن لمقترضها أن يوجهها إلى الإستهلاك المباشر. لذلك تكون المعاملة التي أباحها الإسلام لمثل هـذا المال هـي المشاركة، وتحريم القرض بفائدة محددة، وسوف يضمن هـذا أن يوجه هـذا المال إلى الإنتاج بسبب الإلزام بالمشاركة.

          إذن يستنتج أن المعاملات التي أباح الإسلام لصاحب رأس المال أن يستغل بها ماله مراعى فيه استهداف الإنتاج. وهو ما اعتبرته إحدى الأدوات التي يستخدمها الإسلام لتحقيق التنمية، وذلك كأحد الضوابط في منهج الاستثمار.

          والنتيجة هـي أن استهداف الإنتاج، الذي استهدف بواسطة المعاملات المباحة شرعا، وكذا بواسطة منع وتحريم بعض المعاملات، يكون أحد أدوات التنمية المستخدمة إسلاميا.

          المعنى الاقتصادي الذي يستنتج منه استهداف الإنتاج بواسطة أشكال معينة من المعاملات، كأحد أدوات التنمية في المنهج الإسلامي للاستثمار، يمكن أن يربط اقتصاديا بأوضاع كثير من المجتمعات والدول التي عرفت في أحد عصور تاريخه غنى في شكل امتلاكها مالا سائلا، وهو رأس المال النقدي. وبالرغم من ضخامة ما امتلكته هـذه الدول من أموال، إلا أن حضارتها أو دورها التاريخي في المساهمة في القيادة وصنع الحضارة كان قصيرا وكان محدودا جدا، أو يكاد أن يكون منعدما. ذلك أن هـذه الدول احتفظت بثروتها في شكل رأس مال سائل، وقد استتبع ذلك أن كان النشاط في إقراض واقتراض رأس المال هـو النشاط الاقتصادي الرئيسي والسائد، وصاحب ذلك إهمال النشاط الاقتصادي المنتج، في شكل سلع مادية وخدمية، ويمكن أن نأخذ إسبانيا ، [ ص: 104 ] كمثال في الفترة التاريخية المسماة بعصر الرأسمالية التجارية. في هـذه الفترة كانت إسبانيا أغنى دولة أوروبية، أو أغنى دولة في العالم بسبب ما تمتلكه من نقود في شكل ذهب وفضة، وقد استجلبت هـذه المعادن من مستعمراتها. وبسبب أنها لم توجه رءوس الأموال هـذه إلى النشاط الاقتصادي الإنتاجي، بالمعنى الذي نقصده للإنتاج، فإن دورها القيادي للاقتصاد العالمي كان قصيرا جدا، وكان أثرها في الحضارة الإنسانية منعدما، وذلك بالرغم من غناها الفاحش في إحدى فترات التاريخ، ويمكن أن نأخذ كمثال في العصر الحديث بعض الدول التي تمتلك ثروات سائلة فلكية، وذلك بسبب امتلاكها لبعض المواد الأولية، وبالرغم من ذلك تكون اقتصاديات هـذه الدول اقتصاديات هـشة، كما أن التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي لهذه الدول يكون متشائما. ذلك أن هـذه الدول احتفظت بالجزء الرئيسي من ثرواته في شكل نقدي سائل وجعلت النشاط الاقتصادي الرئيسي له هـو المضاربة في السوق المال. وكان الأمن الاقتصادي الحقيقي لهذه الدول، هـو أن تحول رءوس أموالها النقدية إلى مصانع ومزارع وغير ذلك من صور النشاط الاقتصادي المنتج حقيقة.

          وفي ضوء التحليل التاريخي، يصبح المعنى الاقتصادي لاستهداف الإنتاج بواسطة أشكال معينة من المعاملات واضحا. ذلك أن الإسلام وهو يستهدف إقامة مجتمع إسلامي قوي ودولة إسلامية ثابتة، وحضارة إسلامية حقيقية، استخدم لذلك كثيرا من الأدوات والوسائل والأساليب، ومن الأدوات والأساليب: أنه في مجال المعاملات الاقتصادية ربط استخدام رأس المال بواسطة الغير، والتعاون معه بأشكال من المعاملات الاقتصادية. وقد استلزم في هـذه الأشكال أن يكون أسلوب المشاركة هـو أساس التعاقد. وبهذا الشرط، يكون الإسلام ضمن أن يوجه رءوس الأموال السائلة، وأن تتحول إلى نشاط اقتصادي منتج حقيقة، بالمعنى الذي نقصده، والذي شرحناه، ويكون الإسلام بهذا قد خلص المجتمع الإسلامي من داء حصر النشاط الاقتصاد لأصحاب رءوس الأموال في الاتجار بالنقد: شراء وسمسرة إلى آخر صور التعامل في النقد والتي نعرفها في المجتمعات المعاصرة، [ ص: 105 ] من خلال دراسة نشاط البورصات ونشاط المصارف.

          استهداف الإسلام تحريم الربا، وتحريم الاتجار بالنقد، هـو استهداف أصيل، وتشريعه التعامل بالمشاركة، هـو تشريع مقصود به تحقيق غايات ومقاصد معينة محددة، لأنه بواسطة المشاركة يتخلص المجتمع الإسلامي من وباء سماسرة الاتجار بالمال. وأريد أن أعود وأكرر أن المجتمعات التي تعتمد على الاتجار بالنقد وتجعله النشاط الاقتصادي الرئيسي فيها، هـي مجتمعات هـشة اقتصاديا ولا يمكن أن ننخدع بمظاهر الرواج الاقتصادي الذي تبدو به هـذه المجتمعات. ذلك أن أية أزمة اقتصادية عالمية، سوف تعصف باقتصاديات هـذه المجتمعات، وتأتي على الأخضر واليابس فيها. ولنحفظ ولنع درس التاريخ في مجتمعات مماثلة لها سابقة، مثل حالة إسبانيا التي أشرت إليها، وهناك غير إسبانيا الكثير. وبجانب أن هـذه المجتمعات هـشة اقتصاديا، فإنها هـشة أخلاقيا ولندرس بإمعان الدول الموجودة الآن، والتي تدعي أنه توجد بها أسواق المال العالمية، وأن السمسرة هـي نشاط رئيسي فيها.

          وهكذا، يكون اشتراط المشاركة في المعاملات الإسلامية، وهو الاشتراط الذي يستلزم توجيه رأس المال السائل إلى النشاط الإنتاجي الحقيقي، وعدم توجيهه إلى الاستهلاك المباشر، هـذا الاشتراط يستهدف الإنتاج، وبالتالي يستخدم هـذا لتحقيق التنمية. [ ص: 106 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية