الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث الأول

          المصطلح الملائم للنظام المالي الإسلامي

          الموضوع الذي ينبغي أن نبدأ به البحث في النظام المالي الإسلامي هـو المصطلح الذي يتلاءم مع التشريعات المالية والاقتصادية، بحيث نسمي به هـذا الفرع من فروع الاقتصاد الوضعي وهو: المالية العامة وتعني كلمة العامة في المصطلح أن هـذا المال يقابل المالية الخاصة، فالدولة تمتلك هـذا المال، وتتخذ بشأنه قرارات استخدامه وتوزيعه على صور الإنفاقات المختلفة، وعلى هـذا النحو تكون كلمة " عامة " هـي بمثابة تكييف وتحديد لطبيعة هـذا المال.

          النظام المالي الإسلامي يقابل المالية العامة، هـل يتلاءم مع طبيعته أن نسميه المالية العامة الإسلامية ؟؟. إن تحليل النظام المالي الإسلامي الذي تكون الدولة طرفا فيه توجد به عناصر، تجعل طبيعته لا تتفق معها كلمة " عامة " ، ومن هـذه العناصر:

          أولا ـ المالية العامة محكومة بقاعدة عدم تخصيص الإيرادات. وتعني هـذه القاعدة أن الدولة وهي تقوم بتحصيل الإيرادات من الأفراد بأنواعها المتعددة تجمعها بحيث لا تكون هـذه الإيرادات مخصصة لإنفاق معين، وإنما تجمعها أولا عامة، وبعد ذلك تبدأ الدولة بواسطة أجهزتها الكثيرة في توزيع هـذه الإيرادات على أنواع النفقات التي تقوم بها. ولذلك فإن كلمة " عامة " تتضمن إعطاء الحرية ( المطلقة ) للدولة في تخصيص الإيرادات.

          هذا المعنى المتضمن في مصطلح " عامة " يجعلنا نتوقف أمام استخدامه في المالية الإسلامية، التي تكون الدولة طرفا فيها، ذلك أن تحليل عناصر [ ص: 126 ] الإيرادات في النظام المالي الإسلامي يبين أنها في إجمالياتها مخصصة، ويعني هـذا أن المالية الإسلامية تخضع بإجمال لقاعدة تخصيص الإيرادات. وأعرض بعض العناصر في المالية الإسلامية، والتي تدلل على الرأي الذي أقترحه:

          1- الزكاة، وهي عماد النظام المالي الإسلامي كلها تخضع لقاعدة تخصيص الإيرادات، بمعنى أنه عند جمعها يكون محددا أوجه صرفها، ولا يترك أمر صرفها بعد جمعها لقرارات أجهزة الدولة .

          2- التوظيف في النظام المالي، وهو ما يتشابه مع الضريبة جزئيا، هـذا التوظيف، وعلى النحو الذي بحثه الفقهاء وأجازوه يخضع لقاعدة التخصيص، فالحاكم لا يوظف على القادرين ماليا إلا لحاجة حقيقية ومحددة، وليس للحاكم أن يوظف بمعنى يفرض ضرائب، ثم بعد ذلك ينظر في أمر تخصيصها على أوجه الإنفاق التي تقوم بها الدولة.

          3- بعض عناصر النظام المالي الإسلامي قد لا تكون خاضعة لقاعدة التخصيص، بمعناها الذي حدد؛ مثل الخراج والالتزامات المالية الواقعة على غير المسلمين، إلا أن النظر في هـذه العناصر يبين أنها مخصصة على نحو إجمالي، فهذه الإيرادات تنفق في مصالح المجتمع. والفقهاء يحددون هـذه المصالح على نحو فيه تفصيل ودقة.

          ثانيا: كلمة " عامة " الواردة في مصطلح المالية العامة لها معناها من حيث الملكية، إنها تعني أن هـذا الأموال مملوكة ملكية عامة، وهذا في مقابل الملكية الخاصة، أي أن هـذه الأموال تصبح مملوكة للدولة. في النظام المالي الإسلامي، ملكية الدولة لهذه الإيرادات فيها توقف، وأعرض في هـذا الصدد العناصر التالية للتدليل على ذلك:

          1- الزكاة وهي عماد النظام المالي لا تدخل الملكية العامة، بمعنى لا تمتلكها الدولة، وإنما يد الدولة عليها يد واسطة، تمر عليها الزكاة من الأغنياء إلى المستحقين للزكاة. ولهذا لا يقبل أن تسمى الزكاة مالية عامة، على أساس أن الدولة امتلكتها، فأصبحت ملكية عامة، بل إن الزكاة لا تدخل في ميزانية الدولة، وإنما يكون لها ميزانيتها المستقلة. [ ص: 127 ]

          2- بحث الفقهاء موضوع دفع الزكاة إلى الأمراء، وقد اختلفوا في ذلك، فمن الفقهاء من يرى أنها تدفع إليهم، ولكن توجد أيضا آراء لها أهميتها: أنها لا تدفع إليهم. وهذا الاختلاف الفقهي حول هـذا الموضوع يؤكد الرأي الذي نظهره هـنا، وهو أن الزكاة لا تدخل في ملكية الدولة، أي أنها لا تكون ملكية عامة.

          3- أشير في هـذا الصدد إلى حوار، أرى له دلالة واتصالا، واتصاله فيما نتكلم عنه، وهو طبيعة يد الدولة في النظام المالي الإسلامي، وهو الحوار الذي جرى بين معاوية بن أبي سفيان ، وأبي ذر الغفاري . كان معاوية يقول عن المال الذي دخل في حوزة الدولة: مال الله، فاعترض عليه أبو ذر حين سمع ذلك وقال له: يا معاوية ما يدعوك لأن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال معاوية: يا أبا ذر ألسنا عبيد الله والمال ماله ؟ فرد أبو ذر وقال: لا تقله. قال معاوية: سأقول: مال المسلمين. هـذا الحوار يدل على أن التسمية ليست مسألة شكلية وإنما هـي تكييف سياسي واقتصادي. فإذا كان المسلمون الأوائل ممثلين في أبي ذر، رفضوا التسمية بمال الله، ورأوا أن تسمى باسم مال المسلمين، فإن هـذا يدل على أنها ليست مملوكة للدولة، وإنما لجماعة المسلمين، والتكييف على هـذا النحو له معطياته، فيمن يتخذ القرار، وفيمن يراقب، وغير ذلك مما يدخل في هـذا الموضوع.

          ثالثا: مصطلح " عامة " في المالية العامة يشير إلى نوع معين من المركزية، أي جعل الأمر عل مستوى الدولة ككل. وتطبيق هـذا على موضوعنا يعني أن الإيرادات كلها تجمع في الخزانة العامة للدولة ، وبعد ذلك توزع هـذه الإيرادات كنفقات عامة.

          هذا الأمر على هـذا النحو، أي تجميع الإيرادات وجعلها عامة، وإنفاقها على أنها عامة لا ينطبق على كل عناصر النظام المالي الإسلامي. إن الزكاة التي هـي عماد النظام المالي الإسلامي لها طبيعة محلية، ويمكن أن تتسع دائرة إنفاقها فتشمل المجتمع الإسلامي كله إلا أنها تبدأ محلية.

          وليست الزكاة هـي وحدها التي يظهر فيها عنصر المحلية، وإنما الالتزامات [ ص: 128 ] المالية الإسلامية الأخرى فيها هـذه الخاصية؛ أنها تبدأ محلية، ثم بإعمال مبدأ التكافل الاجتماعي، والمسئولية المشتركة بين المسلمين كافة، تتسع دائرتها بحيث يمكن أن تشمل المجتمع الإسلامي كله.

          والتشريع المالي الإسلامي من هـذا البعد له تميزه الواضع، ذلك أنه يبدأ بوحداته الصغيرة من حيث المسئولية، ثم تتسع هـذه المسئولية إلى مستوى أكبر عند الحاجة إلى ذلك.

          بناء على هـذه المناقشة حول المصطلح الملائم استخدامه في المالية الإسلامية التي تكون الدولة طرفا فيها، نجد أن مصطلح المالية العامة، وهو المصطلح المستخدم في الاقتصاد الوضعي، لا يتلاءم مع المالية الإسلامية.

          وذلك لأن طبيعة المالية الإسلامية وتكييفها، لا تتفق مع التكييف الذي يتضمنه مصطلح " عامة " . ولهذا فالاقتراح هـو استخدام مصطلح النظام المالي الإسلامي في مقابل المالية العامة في الاقتصاد الوضعي.

          وفي نهاية بحث هـذا الموضوع المتعلق بالمصطلحات، فإنه تلزم الإشارة إلى أن أمر المصطلح ليس أمرا شكليا، وإنما هـو تكييف شرعي، له معطياته التطبيقية، وأن تمسكنا برفض وصف " عامة " تستهدف أن نحافظ للنظام المالي الإسلامي على غاياته ومقاصده. وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يفهم ذلك فهما دقيقا. والذين يدق عليهم فهم ما فهمه بدقة أبو ذر أذكر لهم حقيقة مالية معاصرة: ليست المشكلة في كثير من الدول حجم الإيرادات أو حجم النفقات، فالدولة الحديثة تملك من وسائل الإجبار ومن المصادر ما تحصل به على ما تشاء من أموال، وإنما القضية هـي إدارة هـذه الإيرادات والنفقات، والانحراف كله الذي نشكو منه ينحصر في هـذا الجانب، وسوء الإدارة هـو وليد التكييف الخاطئ، لقد قال الاقتصاديون: إيرادات عامة ونفقات عامة، فأطلقوا بهذا يد السلطة في الأموال، التي وضعت تحت تصرفها. وتصحيح انحرافات السلطة في سلوكها المالي لن يتأتى إلا إذا أعدنا تكييف طبيعة هـذه الأموال. ولا أبالغ إذ قلت: إن التكييف الإسلامي في هـذا الصدد هـو التكييف المعياري، فهو التكييف الذي يجعل الإيرادات [ ص: 129 ] ( في مجملها ) عند تحصيلها، ولذلك لا تستطيع السلطة التنفيذية أن تنفق في غير الغرض الذي جمع من أجله الإيراد.

          وزيادة في إبراز هـذا المعنى، وتأكيده، أشير إلى أنه في المالية العامة قرر فصل الإيرادات عن النفقات، وإخضاع الإيرادات لقاعدة عدم التخصيص وذلك لإعطاء الحرية للسلطات المالية أيا كان مستواها، ولعدم إخضاعها عند البت في قرارات الإنفاق لأي التزامات تقررت عند تحصيل الإيرادات. وما أراه إسلاميا، أن هـذا التسبيب مرفوض، إذ كيف تعطى الحرية المطلقة للسلطات المالية للتصرف كما تشاء، وكما ترى، في الإيرادات التي هـي في الواقع استقطاع من دخول الأفراد. ولهذا فإذا كان النظام المالي الإسلامي يخضع لقاعدة تخصيص الإيرادات فإن هـذا مما يعمل على ترشيد القرار المالي الذي تتخذه السلطات المالية.

          إننا نستطيع أن نتبين أهمية ما يقرره الإسلام، وذلك إذ نظرنا إلى بعض الانتقادات التي توجه للمسئولين الماليين، هـذا الإرهاق والعنت في فرض ضرائب متعددة، وهذا الإسراف والتبديد في النفقات، إن هـذا كله يمكن ربطه بالقاعدة التي توجد في المالية العامة من حيث عدم تخصيص الإيرادات، فالمسئول المالي يجد نفسه غير ملتزم إلا بما يراه.

          قد يرد في هـذا الصدد القول: بأن السلطات المالية في الدول الحديثة تتصرف على أساس الميزانية العامة للدولة، وهي معتمدة من النواب المنتخبين في المجالس النيابية . ولكن ما أراه أنه حتى مع وجود ذلك، فإنه لم يغير من الانتقادات التي وجهت، وهي الإسراف في فرض الضرائب والإسراف في الإنفاق.

          يبقى في هـذه المناقشة أن نشير إلى معنى برز مما سبق وهو أن النظام المالي الإسلامي من حيث تكييفه وطبيعته وهو الذي ظهر واضحا من مناقشة ما سبق، أن لجماعة المسلمين إشرافا مباشرا على السلوك المالي للدولة، إيرادا ونفقة. [ ص: 130 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية