الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث الخامس

          الحسبة

          عناصر في دور الدولة الرقابي

          خصص الماوردي الباب العشرين لبيان الحسبة، ويعرفها بأنها أمر بالمعروف إذ ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذ ظهر فعله (ص 270 ) والحسبة واسطة بين أحكام القضاء، وأحكام المظالم ( ص 271 ) . وللمحتسب اجتهاد رأيه فيما تعلق بالحرف دون الشرع كالمقاعد في الأسواق (ص 271 ) .

          وتشتمل الحسبة على فصلين:الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ينقسم الأمر بالمعروف إلى ثلاثة أقسام: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى، والثاني ما يتعلق بحقوق الآدميين، والثالث ما يكون مشتركا بينهما ( ص 275 ) .

          القسم الثاني هـو الذي يتعلق مباشرة بدراستنا الاقتصادية التي نقدمها هـنا.

          ينقسم الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين إلى عام وخاص، فأما العام كالبلد إذا تعطل شربه، أو تهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوي الحاجات، فكفوا عن معونتهم ( ص 276 ) وأما الخاص فكالحقوق إذا مطلت، والديون إذا أخرت (ص 227 ) . العناصر الاقتصادية ذات الأهمية توجد في النوع العام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقرر الماوردي أنه إذا تعطل شرب بلد ( مرفق المياه بلغة حديثة ) ، وتهدم سوره ( وعلى غراره الطرق ) ، ولم يقم بذلك ذوو المكنة، فإن كان في بيت المال مال أمر بإصلاح ذلك، وإن لم يكن توجه المحتسب إلى ذوي المكنة، وكأن ذلك حكم النوازل إذا حدثت، قي قيام كافة ذوي المكنة به ( ص 376 / 277 ) .

          إن الذي قرره الماوردي بشأن ما أسماه الأمر العام في حقوق الأدميين يؤكد [ ص: 144 ] المنحى المتميز للاقتصاد الإسلامي. إن توجه المحتسب إلى القادرين ماليا عند الحاجة للمصالح العامة، مثل المياه، والطرق، هـذا التوجه هـو تقرير لمسؤولية هـؤلاء القادرين على تحمل هـذه النفقات اللازمة والضرورية للمجتمع الإسلامي.

          ألمح فيما قرره الماوردي بعدا آخر، هـو ما أسميه الخاصية المزدوجة للمالية الإسلامية، بين المحلية والعمومية. تتوجه المسئولية المالية للنفقات المشار إليها وما على شاكلتها. تتوجه أولا إلى المستوى المحلي، ولهذا المستوى المحلي درجات، فإذا عجز المستوى المحلي عن الوفاء بهذه الالتزامات تجئ مسئولية المستوى العام، وهو أيضا على درجات، نصل في أقصاه إلى مسئولية بيت مال المسلمين.

          وهكذا فإن العناصر الاقتصادية ذات الأهمية في وظيفة المحتسب المتعلقة بالحق العام في حقوق الآدميين تدور بين فكرة العامة وفكرة المحلية. ومن باب الاستطراد أن أذكر أنه يلزم بذل مجهود في البحث لتأصيل هـاتين الفكرتين، وسوف يكشف ذلك عن تميز في المالية الإسلامية.

          يتعلق الفصل الثاني من فصول الحسبة ، بالنهي عن المنكر، ويشتمل على ثلاثة أقسام أحدهما ما يتعلق بالعبادات، والثاني ما يتعلق بالمحظورات، والثالث ما يتعلق بالمعاملات. والقسم الثالث هـو الذي يدخل دخولا مباشرا في دراستنا الاقتصادية.

          تتسع وظيفة المحتسب في المعاملات اتساعا كبيرا، فمن مسئوليات وظيفته: منع غش المبيعات، وتدليس الأثمان، ومراقبة المكاييل والموازين ( ص 285 ) ويشبه عمل المحتسب في هـذه الوظيفة عمل وزارة التموين والأجهزة التابعة لها. ومن مسئوليات وظيفته أنه يراعي من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف: منهم من يراعي عمله على الغرر والتقصير، ومنهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي عمله في الجودة والتقصير (ص 287 ) ، وعمل المحتسب في هـذا المجال أوسع من أن تشمله وظائف وزارة التموين، بعضه يدخل في عمل وزارة الاقتصاد. ومن مسئوليات [ ص: 145 ] وظيفته أنه يراقب الحقوق المشتركة بين الناس، وذلك مثل المنع من الإشراف على منازل الناس ( ص 288 ) ، ومنع أصحاب السفن من حمل ما لا تسعه ( ص 289 ) ، وعمل المحتسب هـنا يدور بين اختصاص وزارة الداخلية ووزارة العدل.

          هذه بعض وظائف المحتسب ، وهي تدور على أبعاد متعددة، بعضها أبعاد اقتصادية، وبعضها أبعاد غير اقتصادية.

          وبالإضافة إلى ما سبق تقديمه من آراء ( فقهية ) للماوردي عن هـذه الوظائف، نحاول تقديم نموذج آخر، له صلته القوية بدور الدولة الرقابي في الإسلام.

          يقول الماوردي: إن على المحتسب أن يمنع من المعاملات المنكرة، حتى وإن تراضى المتعاقدان بها (ص 284 ) . ما قاله الماوردي هـنا يثير قضايا متعددة، يثير أولا القضية الأم في الاقتصاد الإسلامي، وهي قضية حلية ومشروعية النشاط الاقتصادي، وهذا من أهم ما يميز بين الاقتصاد الإسلامي وغيره من الاقتصاديات الوضعية، الذي يؤسس عليه الاقتصاد، وإنما المعتبر أولا هـو حلية ومشروعية الأنشطة وأيضا ليس المعتبر أولا في الاقتصاد الإسلامي فرض الرشد الاقتصادي، وهو الفرض الذي يؤسس على الاقتصاد، وإنما المعتبر أولا هـو حلية ومشروعية الأنشطة الاقتصادية، ثم بعد هـذا يجيء النظر في الرشد الاقتصادي في النشاط موضوع البحث.

          ثم قضية تواجهنا في العصر الحاضر، وهي تتصل اتصالا قويا بموضوع الربا بصفة خاصة، نواجه بمن يقول بشأن المعاملات الربوية: مادام الطرفان قد رضيا بهذه المعاملة، لأن كلاهما يرى فيها تحقيق مصلحة له فلماذا نمنعها ؟ ما قرره الماوردي يرد على هـذا السؤال الاعتراضي. الأمر في النشاط الاقتصادي من وجهة نظر الإسلام هـو أمر حلية ومشروعية، وهذه هـي قاعدة الأساس.

          وحلية ومشروعية النشاط الاقتصادي تدور من وجهة نظر الإسلام على محور أوسع من محور المصلحة الخاصة للفرد. إن أمر الحلية والمشروعية يدور إسلاميا مع العقيدة، ومع مصلحة المجتمع، ثم مع المصلحة الخاصة، وعلى هـذا النحو نمنع إسلاميا المعاملات المحرمة حتى وإن تراضى بها الطرفان فإننا نحقق إلزامات اقتصادية إسلامية. [ ص: 146 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية