الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          في الاقتصاد الإسلامي (المرتكزات - التوزيع - الاستثمار - النظام المالي)

          الدكتور / رفعت السيد العوضي

          المبحث الرابع

          إجراءات في النظام المالي الإسلامي

          من الموضوعات التي تعطى لها أهمية عند تنظيم ما يتعلق بمالية الدولة، الإجراءات التي يتم بها تحصيل الإيرادات وتقديرها، وكذا إنفاقها. ولا شك أن بعض الإجراءات من الأمور التي يظهر فيها التطور، وطبيعة المؤسسات التي توجد في الدولة؛ ويعني هـذا أن الإجراءات التي تنظم بها مالية الدولة الإسلامية تستفيد من التطور الذي يكون عليه المجتمع، بما في ذلك التطور في المؤسسات. ومع أن هـذا الموضوع مما يظهر فيه التطور بوضوح إلا أن الفقهاء الذين كتبوا عن النظام المالي الإسلامي قد تضمنت مناقشتهم له قواعد وإرشادات تفيد في وضع إجراءات منظمة للمالية الإسلامية.

          كتاب الأموال للإمام أبي عبيد هـو من أوسع الكتب في مجال النظام المالي الإسلامي، وقيل عنه: إنه خير ما ألف في الفقه المالي الإسلامي وأجوده، وبه كل ما يتعلق بالنظام المالي في الإسلام [1] . ولذلك أقترح أن نعرض لبعض إجراءات النظام المالي الإسلامي بالإحالة إلى هـذا الكتاب.

          (1 ) ناقش الإمام أبو عبيد بإسهاب نسبي فرض الزكاة على ما أسماه الفائدة والولادات والأرباح (ص 372 / 7 ) . ويمكن أن يناقش الموضوع بعبارة أخرى: فإذا كان هـناك مال بدأ به الحول وهو ما يسمى أصل المال، ثم حدثت زيادات على هـذا المال من الولادات والأرباح، هـذه واحدة من قضايا الزكاة، وهي في التشريع المالي الوضعي واحدة من قضايا الضريبة. وهذا [ ص: 138 ] الموضوع في الإطار الذي عرض به في كتاب الأموال يثري البحث فيما يسمى فرض الضريبة على الأرباح وما يشبهها من العناصر الأخرى.

          (2 ) عند بحث زكاة التجارات أثار أبو عبيد موضوع التقويم النقدي، وببحث هـذا الموضوع، فإنه يسجل للنظام المالي الإسلامي كفاءته بسبب ربط النصاب فيه والمعدل إلى وحدات عينية، وإباحته التقويم النقدي.

          (3 ) ينقل أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عبد الباري قوله: كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب ، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار، ثم حسبها، شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب (ص 384 ) . وبإقرار هـذا المبدأ نواجه واحدة من المشاكل في النظام المالي المعاصر، وهي المشكلة المعروفة باسم التهرب الضريبي، تحت أي اسم وبأية وسيلة، ومنها تهريب الثروات إلى الخارج، التي هـي ظاهرة منتشرة في البلاد المتخلفة على وجه الخصوص، ويدخل في ذلك عالمنا الإسلامي.

          (4 ) أفرد أبو عبيد بابا مستقلا لبحث الصدقة في الحلي، من الذهب والفضة وما فيها من الاختلاف (ص 397 ) . والموضوع من منظور الإيرادات له أهميته البحثية والتطبيقية. ومما يجدر ذكره أن أبا عبيد يأخذ بوجهة النظر التي ترى فرض الزكاة على الحلي

          ( ص403 ) ، ويفتح هـذا الباب المناقشة حول فرض الزكاة على كل ما يتخذ كحلي، حلي الأشياء، مثل التحف ذات القيمة العالية في بعض البيوت.

          (5 ) أفرد المصنف بابا لبحث الصدقة في التجارات والديون وما يجب فيها وما لا يجب. والذي يعنينا هـنا بحث فرض الزكاة على الديون. ويتمثل التسجيل الذي يثبته المصنف ببحث ذلك في امتداد الكتب، التي كتبت عن النظام المالي الإسلامي، إلى مثل هـذه التفصيلات الدقيقة، إذ أن هـذا الموضوع وما على شاكلته هـو من المشاكل المعاصرة في المالية العامة والضرائب.

          (6 ) بيع بعض الأموال ذات الطبيعة الخاصة لتحصيل الإيرادات. ينقل المصنف عن ذلك القول المشدد لعلي بن أبي طالب لواحد من عماله: إنى أتقدم إليك الآن، فإن عصيتنى نزعتك، لا تبيعن لهم في خراج حمارا، ولا بقرة [ ص: 139 ] ولا كسوة شتاء، ولا صيف، وارفق بهم ( ص 47 ) فهذه أموال لها أهمية معينة. ( وسائل معيشة ووسائل كسب ) .

          (7 ) عندما تكون زكاة في عين المال، وليس في قيمته، فإنه يلزم تجنب أخذ الخيار من هـذا المال. قال رسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ( إني أبعثك إلى أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة في أموالهم. فإن أقروا بذلك فخذ منهم واتق كرائم أموالهم، وإياك ودعوة المظلوم، فإنه ليس لها دون الله حجاب. ) (ص 364 ) .

          (8) إعفاء بعض ما يلزم من المال الأكل المفروض عليه الزكاة. ( كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية ) (ص436 ) . ونقل عن عمرو بن العاص : " خففوا على الناس في الخرص فإن المال العرية والأكلة. " ( ص 436 ) .

          (9 ) تأخير تحصيل الإيرادات إلى وقت حصاد المال المفروض عليه الالتزام المالي، ومراعاة اللين وحسن المعاملة. ينقل المصنف أن عمر بن الخطاب أتي بمال كثير، فقال: " إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا وصفوا، قال: فلا سوط ولا نوط، قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني " ( ص 46 ) . وينقل عنه أيضا أنه قال لعامله الذي قال له حسب أوامره: " نؤجر الناس إلى غلاتهم: لا عز لتلك ما حييت " (ص 46) . ومما يدخل في الإجراءات حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله حتى يرجع. " (ص 364 ) .

          (10 ) كتب أبو عبيد عن المكس، ويقابله الآن الضرائب الجمركية. وما قاله أبو عبيد عن هـذا الموضوع يؤسس الحرية التامة للتبادل بين الأقاليم الإسلامية استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة صاحب مكس ) ( ص 469 ) وقد التزم ولاة الأمر من الخلفاء الراشدين بذلك، فهذا عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عدي بن أرطاة : أن ضع عن [ ص: 140 ] الناس الفدية، وضع عن الناس المكس. ( ص 470 ) وكتب أيضا إلى عبد الله ابن عوف القارئ: أن اركب إلى البيت برفح، الذي يقال له بيت المكس، فاهدمه، ثم احمله إلى البور فانسفه (ص 470 ) . يتمتع بهذه الحرية في التبادل، المسلمون، ومن لهم عهد ولا توضع القيود على التبادل، بما في ذلك فرض الضرائب، أو الرسوم الجمركية، إلا على أهل الحرب، ونقل أبو عبيد في ذلك عن عبد الرحمن بن معقل: سألت زيد بن حدير: من كنتم تعشرون ؟ قال: ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا، قلت: فمن كنتم تعشرون ؟ قال تجار الحرب، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم (ص 471 ) . وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب: إنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة ومن أهل الحرب العشر تاما، لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله، إذا قدموا بلادهم، فكان سبيله في هـذين الصنفين بينا واضحا (ص473) .

          (11) يكتب أبو عبيد عن القاعدة الأساسية في الإسلام، بشأن تحديد من له حق في المالية المشتركة في الإسلام؛ ينقل عن عمر: ما من أحد من المسلمين إلا له في هـذا المال حق، أعطيه أو منعه. وقد قرأ عمر بعد ذلك: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) (الحشر:7) ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) (الحشر:8) ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ) (الحشر:9) ( والذين جاءوا من بعدهم ) (الحشر: 10) ، قال عمر: فاستوعبت هـذه الآيات الناس (ص 202 ) .

          (12 ) من قواعد الأسس المنظمة للنفقات المشتركة في الإسلام أنها تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء. فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 220 ) . وهي السياسة التي نفذها الخلفاء الراشدون، وقال بشأنها عمر رضي الله عنه : " يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم " (ص220) .

          (13 ) توجد بعض الحالات، التي تعطى لها أهمية في المالية في الإسلام، [ ص: 141 ] ومنها الحالات الثلاث التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( رجل تحمل بحمالة بين قوم ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله، ورجل أصابته فاقة ) (ص 217 ) .

          (14 ) التسوية أو التفاوت بين الناس. وقد خص أبو عبيد هـذا الموضوع بباب مستقل (ص 244 ـ 246 ) وبدأ بحثه بذكر ما نقل عن أبى بكر : لما قدم عليه المال جعل الناس سواء، وقال وددت أني أتخلص مما أنا فيه بالكفاف، ويخلص لي جهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد على من كلمه أن يفضل بين الناس في القسم فقال: فضائلهم عند الله، فأما هـذا المعاش فالتسوية فيه خير ( ص 244 / 5 ) . كما ذكر أبو عبيد فعل عمر ابن الخطاب حين فاضل في القسم والمعيار الذي اتخذه في ذلك ثم ذكر عنه أيضا قوله: " لئن عشت إلى هـذا العام المقبل، لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا بيانا واحدا " ( 245 ) .

          (15 ) الحد الأدنى الذي يعطى لمن له حق والحد الأعلى الذي يطيب له، موضوع أولاه أبو عبيد بالبحث، وقد أفرد له بابا مستقلا ( ص 497 ـ 504 ) وقبل أن أعرض ما قال، أشير لدقة المصطلح الذي استخدم مع الحد الأعلى: وكم أكثر ما يطيب له منها ( ص 497 ) . يدور الخلاف بين الفقهاء في ذلك على بعض المحاور.

          بعض الآراء تذهب إلى أنه يعطى ما يكون رأس مال ، والإمام مالك يترك ذلك لاجتهاد وحسن ظن المعطي. ويرى أبو عبيد أن التوسعة خير. ونقل عن عمر أنه يجوز شراء مسكن.

          (16) بعض الحالات التي أثبت أبو عبيد أنها تعتبر في النظام المالي في الإسلام وهذه الحالات هـي:

          أ- إعانة الطفولة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من ترك كلا فإلينا ومن ترك مالا فلورثته ) ( ص 223 ) ، وفرض عمر للمولود ( ص 223 ) ، وقول الحسن بن على : يجب سهم المولود إذا استهل ( ص 223 ) .

          ب- الإعانة على الزواج ( ص 246 ) . [ ص: 142 ]

          جـ- الإعطاء على تعلم القرآن (ص 243 ) .

          د- إعطاء علاوة للمتزوج ( ص 227 ) .

          هـ- إجراء الطعام على الناس ( الذين يحتاجون ) شهريا ( ص 230 ) .

          (17 ) إفراد المصنف بابا مستقلا لبحث قسم الصدقة في بلدها، وحملها إلى بلد سواه، ومن أولى بأن يبدأ به منهما ( ص 506 ) . وهذه أيضا واحدة من قواعد الإجراءات.

          (18 ) بحث المصنف أيضا تفريق الصدقة في الأصناف الثمانية وإعطائها بعضهم دون بعض ( ص 512 ) ويدخل ذلك في التنظيمات الإجرائية.

          (19 ) ثم بحث المصنف موضوعا له دقة كتنظيم إجرائي وهو موضوع تعجيل الصدقة وإخراجها قبل أوانها. وقد تعجل الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة عمه العباس سنتين

          ( ص 522 ) . وكان الصحابة لا يرون بأسا في ذلك (ص 523 ) . بلال بن رباح يقول في ذلك: قدم ولا تؤخر ( ص 523 ) .

          هذه بعض القواعد الإجرائية التي كتب عنها أبو عبيد ، وكل هـذا له أهميته التطبيقية للنظام المالي الإسلامي. وكما قلت في بداية هـذه الفقرة: فإن موضوع الإجراءات، باعتباره موضوعا فنيا فإنه يرتبط كثيرا بالتطور إلا أن فيه بعض عناصره المبنية على أحكام فقهية، لذلك ناقشه الفقهاء. [ ص: 143 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية