الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفرع الثاني: توزيع الدخل ( توزيع السوق )

          العنصر الأول: تحديد عوامل الإنتاج.

          العنصر الثاني: الأسس والقواعد التي تنظم نشاط عوامل الإنتاج.

          العنصر الثالث: تحديد دخول عوامل الإنتاج.

          العنصر الأول الفقه الذي سبق تقديمه يثبت أن هـناك محوري ارتكاز يقوم عليهما التفكير الإسلامي لاختيار عوامل الإنتاج ثم تصنيفها وهما:

          المحور الأول: عوامل الإنتاج، بمعنى: ما هـي ؟

          المحور الثاني: تصنيف هـذه العوامل.

          المحور الأول: عوامل الإنتاج في الفكر الإسلامي

          يتبين من النظرة الاقتصادية لفقه هـذا الموضوع أن عوامل الإنتاج في الفكر الإسلامي ثلاثة

          1- العمل.

          2- رأس المال.

          3- الأرض.

          هذه العوامل الثلاثة هـي مركز القوى في النشاط الاقتصادي التي يعترف بها الإسلام بحيث تحرك الإنتاج، ثم تستحق نصيبا أو جزءا من الناتج.

          المحور الثاني: تصنيف هـذه العوامل فلسفة الفكر الإسلامي لا تقف عند مرحلة اختيار عوامل الإنتاج، وإنما يمد الإسلام موقفه إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة التصنيف المنهجي لعوامل الإنتاج وفي هـذه المرحلة، فإن الإسلام لا يجعل هـذه العوامل على درجة واحدة، وإنما يجعلها على درجات متفاوتة، ويجعل العمل في أعلى هـذه الدرجات، وفكرة تعدد الدرجات، هـي إسلامية رائدة وينبغي أن تفهم في ضوء ما يلي: [ ص: 62 ]

          أ - إننا إذا كنا نقول: إن هـيكل الاقتصاد الإسلامي يقوم على عوامل الإنتاج الثلاثة السابقة فإن من صميم بناء هـذا الهيكل أن هـذه العوامل تقع على درجات متفاوتة، ففكرة التفاوت، وتعدد الدرجات ليست مسألة متعلقة بالشكل، وإنما مسألة داخلة في صميم وجوهر هـذا البناء.

          ب - إن فكرة عوامل الإنتاج المتعددة الدرجات تفهم في مواجهة التقسيمات الاقتصادية المعاصرة لعوامل الإنتاج على النحو التالي :

          إن الرأسمالية ـ فيما انتهت إليه ـ تقسم عوامل الإنتاج إلى عمل ورأس مال ، وتجعل الأرض ضمن عنصر رأس المال، والتنظيم ضمن عنصر العمل، وتجعلها على درجة واحدة، وتعاملهما من حيث توزيع الناتج، وشكل المشاركة، ونوعية القواعد والقيود المنظمة ـ إن وجدت ـ معاملة واحدة، وفي مقابلة الاقتصاد الإسلامي بذلك نجد أن الإسلام يعترف بهذه العوامل، ولكن يذهب سريعا إلى الاختلاف بعد ذلك من حيث النظرة إلى عنصر العمل حيث يجعله أعلى درجة، وهذا هـو التصنيف المنهجي.

          العنصر الثاني: الأسس والقواعد التي تنظم نشاط الإنتاج

          هذا هـو البعد الثاني في مرحلة توزيع الدخل ( توزيع السوق ) وفي حقيقة الأمر فإن محتويات هـذا البعد هـي التي قام على أساسها التصنيف المنهجي لعوامل الإنتاج، وهو المحور الثاني في البعد السابق، ولكن نظرا لأهمية النتائج التي تترتب على نوعية هـذه الأسس والقواعد في مجال التوزيع وأفردنا لها بعدا مستقلا في وضع الإطار العام لتوزيع الدخل توزيعا عمليا. وفقه هـذا الموضوع يتناول ثلاثة جوانب هـي :

          1- توزيع الناتج بين عوامل الإنتاج التي اشتركت فيه.

          2- شكل وأسلوب المشاركة بين عوامل الإنتاج.

          3- اتجاه القواعد والأسس التي تحكم استغلال العوامل في النشاط الاقتصادي. [ ص: 63 ]

          النتائج التي يعطيها فقه هـذه الجوانب الثلاثة هـي :

          1- توزيع الناتج بين عوامل الإنتاج:

          إن الإسلام يقوم على أساس أن عوامل الإنتاج الثلاثة جميعا تحصل على نصيب في الناتج الذي يتولد من النشاط الاقتصادي. ولكن تحليل الاتجاهات التوزيعية بناء على فقه هـذا الموضوع يثبت أن العمل هـو المحور الارتكازي في عملية التوزيع.

          2- شكل وأسلوب المشاركة بين عوامل الإنتاج:

          ونعني بهذا الاصطلاح : الأسلوب الذي ينظم العلاقة القانونية بين ملاك عوامل الإنتاج في النشاط الاقتصادي بعبارة أخرى : تحديد الشكل الذي يستحق به كل عامل نصيبه في الناتج، وينحصر في شكلين أو أسلوبين :

          1- المشاركة في الأرباح.

          2- أخذ مقابل نقدي محدد.

          النتائج التي يعطيها الفقه في هـذا المجال هـي:

          أ- بالنسبة للعمل : أجاز له الإسلام أن يكون أسلوب مشاركته بأي شكل من الأشكال القانونية المعترف بها لتنظيم العلاقة بين المشتركين في النشاط الاقتصادي.

          ب- بالنسبة لرأس المال : ليس له إلا أن يشارك في الناتج.

          جـ- بالنسبة للأرض : أسلوب مشاركتها، أو بعبارة، أصح أسلوب العمل عليها يخضع لمصلحة الجماعة الإسلامية، فيتحدد وفق ما يكون مناسبا لظروف المجتمع. ( إجارة ـ مزارعة ) .

          والاتجاهات التوزيعية بالنسبة لهذا البند كله، مازالت تعبر عن وجهة نظر الفكر الإسلامي التي سبقت، وهي أن عوامل الإنتاج جميعها تشارك في الناتج، ولكن العمل مازال يحتل مركزا خاصا في عملية التوزيع. [ ص: 64 ]

          3- اتجاهات القواعد والقيود التي تحكم استغلال العوامل في النشاط الاقتصادي:

          فقه هـذا الموضوع يتضمن ثلاثة عناصر اقتصادية:

          1- دفع جميع عوامل الإنتاج إلى العمل.

          2- نطاق أو مجال النشاط أمام عوامل الإنتاج.

          3- نوعية القيود المنظمة لنشاط العوامل.

          والنتائج الاقتصادية التي يعطيها فقه هـذه العناصر هـي:

          2- الإسلام يفرض ـ بمعنى الإلزام ـ على جميع عوامل الإنتاج أن تعمل في خدمة المجتمع.

          2- أما من حيث نطاق أو مجال النشاط أمام عوامل الإنتاج. فالفكر الإسلامي يقوم على أساس إعطاء أكبر انطلاقة ممكنة أمام عنصر العمل في النشاط الاقتصادي، أما بالنسبة لرأس المال فلا تتوافر هـذه الانطلاقة بكل أبعادها وأما عنصر الأرض، فهو لا يحتمل مثل هـذه القيود، لأنه مفتوح للنشاط الاقتصادي أمام العمل، ورأس المال، ولذا فالقيود فيه تكون قيودا على رأس المال والعمل.

          3- أما من حيث نوعية القيود المنظمة لنشاط العوامل فإن فقه هـذا الموضوع يعطي التصورات الاقتصادية التالية :

          أ- اتجاهات القيود على عنصر العمل مما نطلق عليه قيودا إيجابية بصفة عامة.

          ب- بالنسبة لرأس المال، فبجانب وجود اتجاهات إيجابية في تنظيمه نجد كذلك أنه يرد عليه اتجاهات سلبية، مثل منع الربا، والاحتكار ، أما الأرض فملاحظة البند السابق تنطبق عليها هـنا.

          وهكذا نجد بالنسبة لهذا الجانب الثالث أنه يتضمن اتجاها محددا في التوزيع، وهو يتفق مع ما سبق في أن عوامل الإنتاج كلها لها اعتبارها في عملية التوزيع، وأن العمل يمثل موقعا خاصا فيها. [ ص: 65 ]

          العنصر الثالث: تحديد دخول عوامل الإنتاج:

          هذا هـو البعد الثالث في مرحلة توزيع الدخل، وفيه يبحث كيف يتحدد العائد على عوامل الإنتاج الثلاثة : العمل ـ رأس المال ـ الأرض، وفقه هـذا الموضوع يعطي النتيجة الاقتصادية التالية :

          إن دخل عامل الإنتاج يتحدد في الفكر الإسلامي على ثلاث مراحل :

          أولا : وضع قواعد أولية تسبق التحديد الفعلي للعائد في السوق.

          ثانيا : تحديد العائد في السوق.

          ثالثا : وضع قواعد تصحيحية لقوى السوق.

          أولا: وضع قواعد أولية تسبق التحديد الفعلي للدخل في السوق

          إن الإسلام يضع مجموعة من القواعد التي تعطي انعكاسات على تحديد الدخل، أو تكون بمثابة محددات أو مؤشرات لتحديده، ولكن هـذه القواعد تختلف من عامل لآخر.

          ففيما يتعلق بتحديد الأجر، فالقواعد التي تسبق دور السوق، من القواعد المحددة ـ إلى حد ما في مجال مقدار الأجر الأولي، فهذه القواعد تضع شرطا أو قيدا على ما يتحدد في السوق فيما بعد، وهو أن يكون الأجر بالنسبة للعامل مقدرا بالكفاية، أي يكفي العامل.

          أما فيما يتعلق بالعوامل الأخرى، فإن القواعد التي تسبق مرحلة التحديد الفعلي في السوق هـي من قبيل القواعد التي تؤصل للمبادئ العامة، والقيم الكلية، أكثر منها مبادئ تحديد الدخل على عامل الإنتاج.

          ثانيا: تحديد الدخل في السوق

          إن الفكر الإسلامي يقوم على أساس أن يتم التحديد الفعلي لدخل عوامل الإنتاج في السوق، أي أن تتفاعل قوى العرض وقوى الطلب، بعد إعمال القواعد المذكورة في البند أولا. [ ص: 66 ]

          ثالثا: وضع قواعد تصحيحية لقوى السوق

          إن الإسلام لا يجعل نتائج السوق نتائج نهائية وقاطعة في تحديد الأجر، وإنما يعقب هـذه المرحلة بمجموعة من القواعد التصحيحية لنتائج السوق، وهذه القواعد تكون بمثابة عملية تقويم لنتائج السوق، وفي الوقت نفسه تعمل على أن يكون تحديد العائد وفق المبدأ الإسلامي العام وهو العدل، الذي يقوم على أساس مراعاة مصلحة طرفي التعامل والتوفيق بينهما.

          وهكذا نجد أن الفكر الإسلامي، في تحديد دخول عوامل الإنتاج، يتم وفق هـذه الخطوات الثلاث، ولكن هـناك مسائل محددة تثار في الفكر الاقتصادي المعاصر بخصوص دخول عوامل الإنتاج، وأعرض فيما يلي الرأي الإسلامي حول بعضها:

          (أ) دور العمل في تحديد القيمة النتيجة التي يعطيها البحث في هـذه المسألة، أن الفكر الإسلامي يقوم على أساس الأخذ في الاعتبار مصلحة طرفي التعامل، البائع والمشتري، أو المنتج والمستهلك، وعليه فتفسير القيم بالعمل فقط كما ذهب إلى ذلك الاقتصاد الوضعي لا يتفق مع هـذا الموقف.

          ( ب ) حدود المخاطر كما يراها الفكر الإسلامي النتيجة التي يعطيها البحث بصدد ذلك، هـي أن فكرة الخاطرة التي يربطها الفكر الاقتصادي المعاصر بالمنظم ينبغي أن تقيد من وجهة نظر الفكر الإسلامي، فهي مخاطرة محسوبة ومقدرة بمعرفة كل من العامل، وصاحب رأس مال، وأن تعاقدهما تم في اطار هـذه المخاطرة، وليست المخاطرة من اختصاص العامل فقط، كما ذهب إلى ذلك الفكر الاقتصادي الرأسمالي.

          (جـ) سبب استحقاق رأس المال دخلا إن سبب استحقاق رأس المال عائدا ليس هـو الحرمان أو الانتظار، كما ذهب إلى ذلك الفكر الاقتصادي الرأسمالي، وإنما يستحق رأس المال عائدا في [ ص: 67 ] الإسلام لأن له إنتاجه، ولهذا يكون من حقه أن يأخذ جزءا مما شارك في إنتاجه، فالإسلام يحرم الربا لأنه غير منظور فيه الإنتاج، ويجيز المشاركة لأنه يراعى فيها الإنتاج.

          (د) الجانب الاجتماعي والسياسي في استغلال الأرض إن الأرض كأحد عوامل الإنتاج لها انعكاساتها على الأوضاع السياسية والاجتماعية بأوضح مما في غيرها، كما أن لها أهميتها من حيث نوع إنتاجها، ولذا فإن أسلوب استغلال الأرض يتحدد حسب مصلحة الجماعة الإسلامية، أي يراعى في تحديد أسلوب استغلال الأرض، الاعتبارات السياسية والاجتماعية بجانب الاعتبارات الاقتصادية وذلك بأوضح مما روعي في غير هـذا العامل.

          (هـ) حق ولي الأمر في الدخل في الأسواق الإسلام أعطى لولي الأمر الحق في التدخل لتنظيم الأسواق، سواء أسواق السلع الاستهلاكية، أو أسواق عوامل الإنتاج، ومن وسائل التدخل :

          التسعير ، منع الاحتكار، تنظيم نشاط عوامل الإنتاج، التدخل في تعديل نتائج قوى السوق من حيث تحديد العائد.

          وإذا أردنا أن نعطي تصورا موجزا لملامح وأبعاد مرحلة توزيع الدخل ( توزيع السوق ) في الفكر الاقتصادي الإسلامي، نجدها تتلخص فيما يلي:

          1- مراكز القوى الاقتصادية للإنتاج والتوزيع هـي : العمل، رأس المال، الأرض.

          2- يمثل العمل العصب بالنسبة لهذه العوامل.

          3- السوق يلعب دورا ظاهرا في هـذه المرحلة من مراحل التوزيع، ولكن هـناك مجموعة من القواعد والقيود السابقة عليه، التي تحكم اتجاهاته، كما أن هـناك مجموعة من القواعد التي تصحح نتائجه.

          4- مع الاعتراف بالسوق ودوره في هـذه المرحلة ـ باعتباره يمثل المصلحة الفردية [ ص: 68 ] ـ فإن مصلحة الجماعة موجودة في كل جزئيات هـذا التنظيم.

          5- يذهب الفكر الاقتصادي إلى تسمية هـذه المرحلة باسم التوزيع الوظيفي، والتبرير لهذه التسمية، هـو أن التوزيع هـنا يكون بحسب الوظيفة التي يؤديها العامل الإنتاجي، ولكن الإسلام لا يتحدد موقفه من داخل عامل الإنتاج بحسب وظيفته التي يؤديها فحسب، وإنما بجانب ذلك، بحسب تقويم المجتمع لهذه الوظيفة، ولهذا العامل، ومن كان السبب لاستخدامنا مصطلح : " توزيع الدخل " وليس التوزيع الوظيفي.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية