الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن تكفل ثلاثة رجال لرجل بحقه الذي له على فلان ، أيكون له أن يأخذ من لقي منهم بجميع الحق ؟

                                                                                                                                                                                      قال : لا ، إلا أن يكونوا تحملوا بذلك الحق . وبعضهم أيضا حملاء عن بعض واشترط عليهم أن يأخذ من شاء منهم بحقه . فإن كانوا هكذا ، أخذ من لقي منهم بجميع حقه ، وإن لم يكن بعضهم حميلا عن بعض ، لم يكن له أن يأخذ من لقي منهم إلا بثلث المال .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : قال مالك : وإذا اشترط عليه أن يأخذ من شاء منهم بحقه ، فأخذ منهم بالحق رجلا ، لم يكن لهذا الذي أخذه بجميع الحق أن يرجع على من تحمل معه ، إلا أن يكونوا اشترطوا عند الحمالة أن بعضهم حملاء عن بعض ، واشترط الذي له الحق أن يأخذ من شاء بالجميع فأخذ بذلك أحدهم ، فإنه ههنا يرجع منهم من غرم على صاحبيه بثلثي ما غرم ، إذا كان في أصل الحمالة بعضهم حملاء عن بعض .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : ولو كانوا كلهم حضروا وكلهم مياسير ، لم يكن له أن يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق ، وهذا بمنزلة الحميل والذي عليه الأصل ; لأنه إذا كان الذي عليه الأصل موسرا لم يؤخذ الحميل ، وإن كان معدما أخذ الحميل ، وإن كان بعض الحملاء معدما وبعضهم موسرا أخذ الذي له الحق حقه من الذي وجده مليا منهم إلا أن يكون شرط عليهم في الحمالة أنه يأخذ من شاء بحقه ، فيكون له أن يأخذ بعضهم بالجميع وإن كانوا كلهم مياسير .

                                                                                                                                                                                      قال ابن وهب : وقال مالك : إن من أمر الناس الجائز عندهم ، أن الرجل يكتب حقه على الرجلين ، فيشترط أن حيكما عن ميتكما ، ومليكما عن معدمكما وإنما ذلك بمنزلة الحمالة يتحمل بها أحدهما عن صاحبه .

                                                                                                                                                                                      قال : ابن وهب : وأخبرني الثقة عن عطاء بن أبي رباح أنه قال نحو ذلك . وقال غيره : وإذا كان لرجل ستمائة درهم على ستة رجال ، على أن بعضهم حملاء عن بعض بجميع المال ، أو قال : على أن كل واحد منهم حميل عن أصحابه بجميع [ ص: 105 ] المال ، أو قال : على أن كل واحد منهم حميل بجميع المال ، ولم يذكر أصحابه بشيء ، أو قال : على أن كل واحد منهم حميل عن صاحبه بجميع المال ، فأيهم شاء أن يأخذ بجميع حقه ; أخذ .

                                                                                                                                                                                      قال في ذلك كله : ولا براءة لواحد منهم حتى يوفي جميع هذا المال أو لم يقله فهو سواء كله . وله أن يأخذ منهم من لقي بجميع الحق فإن لقي واحدا منهم ، أو لقيهم جميعا ، كانوا مياسير كلهم أو بعضهم وإن لم يكن شرط ، فأيهم شاء أن يأخذ بحقه أخذه ، فإنه إن لقي واحدا منهم فله أخذه بجميع الحق ، وإن لقيهم جميعا - وهم مياسير - فليس له أن يأخذ بعضهم ببعض ; لأن الحميل لا يؤخذ بالذي على المديان ، إذا كان المديان حاضرا مليا ، وإنما له أخذه إذا كان المديان عديما أو غائبا أو يكون مديانا أو ملدا ظالما .

                                                                                                                                                                                      فإن لقي الغريم واحدا من الستة فأخذ منه المال كله ، ثم لقي المأخوذ منه المال كله أحد الستة بعد ذلك ، فإنه يأخذ منه مائة أداها عنه خاصة ، ويأخذ منه مائتين ; لأنهما حميلان عن الأربعة ، وقد كان أدى عن نفسه مائة لا يرجع بها على أحد ، وأخذ من هذا الذي لقي مائة أداها عنه وبقيت أربعمائة أداها عن الأربعة الباقين ، فله أن يرجع على هذا بنصف الأربعمائة ; لأنهما حميلان عن الأربعة . فإذا أخذ منه مائتين فقد استويا في الغرم ، فإن لقي أحدهما أحد الأربعة الباقين ، فإنه يأخذه بخمسين درهما قضاها عنه خاصة من الدين الذي له عليه ، ويرجع عليه بنصف ما أدى عن الثلاثة ، وقد أدى عن الثلاثة بالحمالة خمسين ومائة ، فيرجع عليه بنصفها ، فيكون جميع ذلك مائة وخمسة وعشرين ، خمسين عنه خاصة أداها عنه وخمسة وسبعين عنه بالحمالة عن الثلاثة .

                                                                                                                                                                                      وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال الثالث من الباقين ، فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين وبنصف ما أدى عن أصحابه ، فإن لقي الرابع المأخوذ منه الآخر من الأولين ، الذي لم يرجع على الرابع ; فإنه يرجع عليه بما أدى عنه من أصل الدين . وذلك خمسون درهما . وينظر ما بقي مما أداه بالحمالة عنه ، فإذا هي خمسون ومائة درهم ، وقد أدى الرابع بالحمالة خمسة وسبعين درهما ، فيرجع عليه الذي أدى خمسين ومائة بسبعة وثلاثين ونصف ، حتى يعتدلا بما أديا في الحمالة عن الثلاثة ، فيصير كل واحد قد أدى مائة واثني عشر ونصفا . فعلى هذا يكون ، إذا لقي بعضهم بعضا حتى يؤدي كل واحد منهم مائة ; لأن كل واحد كان عليه من أصل الدين مائة ، فخذ هذا الباب على هذا ونحوه . ولو أن هؤلاء الستة الذين عليهم ستمائة درهم . تحمل بها بعضهم عن بعض . على أن كل اثنين منهم حميلان بجميع المال ، أو قال : على أن كل اثنين حميلان عن أصحابهما بجميع الدين ، أو كل اثنين حميلان عن اثنين منهم بجميع المال ، أو على أن [ ص: 106 ] كل اثنين ضامنان عن واحد بجميع المال على ما وصفت لك في صدر المسألة ، فهذا كله سواء . فإن لقي رب المال اثنين منهم أخذ منهما الجميع : ثلثمائة ثلثمائة ، وإن لقي واحدا منهم أخذه بثلثمائة وخمسين : مائة منها عليه من أصل الدين ، وخمسون ومائتان عن الحمالة ; لأنه كفيل بنصف ما بقي . فإن أخذ ذلك منه ، ثم لقي المأخوذ منه رجلا من الستة ، كان له أن يأخذ منه خمسين أداها عنه من دينه خاصة ، ثم يأخذه بنصف المائتين اللتين أدى عن الحمالة ; لأن المؤدي الأول أدى عن نفسه مائة لا يرجع بها على أحد ، وأدى خمسين ومائتين عن أصحابه ، عن كل واحد منهم خمسين خمسين . فإن لقي واحدا منهم ، أخذ منه خمسين أداها عنه عن أصل دينه ، ثم يشاركه فيما بقي مما أدى عن أصحابه وذلك مائتان ; لأن كل اثنين حميلان بجميع المال .

                                                                                                                                                                                      وهذا بمنزلة ستة رجال عليهم ستمائة درهم ضمنوها لصاحبها ، على أن كل واحد منهم ضامن لنصف جميع المال . فإذا لقي صاحب الدين واحدا منهم ; أخذه بحصته من الدين ، وذلك مائة ، وبنصف ما على أصحابه فهذا والأول سواء . فإن لقي صاحب الدين واحدا منهم أخذ منه ، ثلثمائة وخمسين ثم إن لقي المأخوذ منه أحدا من أصحابه ; أخذه بخمسين أداها عنه ، وبمائة درهم مما أدى عنه من أصحابه ، فإن لقي المؤدي الثاني أحدا من الأربعة الباقين ، أخذه بخمسة وعشرين أداها عن خاصة نفسه ، وبنصف ما بقي من المائة حتى يستووا في الغرم عن أصحابهم ، وذلك نصف خمسة وسبعين درهما ، وكذلك من لقوا من أصحابهم على ما وصفت لك ، فخذ هذا على هذا .

                                                                                                                                                                                      قال : ولو كانت الستمائة على ستة رجال . على أن كل ثلاثة حملا عن ثلاثة بجميع المال ، أو على أن كل ثلاثة حملاء عن صاحبهم ، أو عن أصحابهم ، أو عن واحد بجميع المال ، أو على أن كل واحد حميل بثلث المال ، فهذا كله سواء . فإن لقي ثلاثة أخذهم بجميع المال ، وإن لقي واحدا أخذه بمائة وبثلث ما بقي ، وذلك مائة وستة وستون وثلثان .

                                                                                                                                                                                      وإن لقي اثنين ; أخذ منهما مائتين : ما عليهما خاصة وثلثي ما بقي مما تحملا به ، وليس له أخذهما بغير ذلك ، وذلك مائتان وستة وثلاثون وثلثا درهم . فإن لقي الثلاثة أخذهم بجميع المال ، فإن أخذه منهم ، ثم لقي واحدا منهم أحد الثلاثة الذين لم يؤدوا ، فإنه يأخذه بما أدى عنه خاصة بثلاثة وثلاثين درهما وثلث ; لأنه أدى مائتين : مائة منهما عليه خاصة ومائة أداها عن الثلاثة ، أدى عن كل واحد منهم ثلثها ، فيأخذ منه ثلث المائة التي أدى عنه عن خاصة نفسه ، وبقي ما أدى عن الاثنين وذلك ستة وستون وثلثان ، فيرجع عليه بنصفها حتى يستووا في الغرم عن الاثنين ، فإن أخذ منه ثم لقي الثالث الذي أخذ من صاحبه ما أخذ أحد الاثنين اللذين أديا معه المال ، جميع ما أديا جميعا عن الثلاثة ، فجعل عليهما نصفين ، فيرجع الأول الذي لم يأخذ من الثالث شيئا ، [ ص: 107 ] على الذي أخذنا بالفضل ، حتى يكونا في الغرم سواء . فإن اقتسما ذلك ، ثم لقيا الباقي الذي أدى معهم المال ، تراجعوا الفضل أيضا حتى يصير ما أخذ من الثالث بينهم أثلاثا ; لأنهم في الكفالة سواء . فإن لقي واحد منهم أحدا ممن لم يؤد ، فأخذه بشيء على حساب ما يقع عليه ، فلا بد من أن يشارك فيه من لقي من الاثنين اللذين أديا معه المال ، حتى يكون ما أخذ كل واحد منهم بينهم بالسوية ; لأنهم حملاء عن أصحابهم ، ثم هكذا يفعل فيهم ، ولو كانت الستمائة على ستة ، فضمنوها على أن كل واحد منهم حميل عن ثلاثة بجميع المال ، أو عن خمسة ، أو عن واحد ، أو عن جميعهم ; فهذا أصل واحد . وكل واحد حميل بجميع الستمائة ; لأنه قال في أول الحمالة ، على أن كل واحد منهم حميل بجميع المال ، فلا يضره قال عن ثلاثة أو عن أقل أو عن أكثر ، فكل واحد منهم حميل بجميع المال ، فخذ هذا على هذا .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية