الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2634 باب في خمس رضعات

                                                                                                                              وذكره النووي في : (كتاب الرضاع) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 29 ج 10 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة "رضي الله عنها" أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن: بخمس معلومات. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فيما يقرأ من القرآن) .

                                                                                                                              وفي رواية : (نزل في القرآن : عشر رضعات معلومات) . ثم نزل أيضا : "خمس معلومات".].

                                                                                                                              [ ص: 476 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 476 ] (الشرح)

                                                                                                                              والمعنى : أن النسخ بخمس رضعات ، تأخر جدا إنزاله ، حتى إنه : توفي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعض الناس يقرأ : " خمس رضعات " فيجعلها قرآنا متلوا ، لكونه : لم يبلغه النسخ ، لقرب عهده . فلما بلغهم النسخ بعد ذلك : رجعوا عن ذلك ، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى .

                                                                                                                              والنسخ ثلاثة أنواع ;

                                                                                                                              أحدها : ما نسخ حكمه وتلاوته ، "كعشر رضعات". .

                                                                                                                              والثاني : ما نسخت تلاوته دون حكمه ، " كخمس رضعات " . وكالشيخ والشيخة ، إذا زنيا فارجموهما .

                                                                                                                              والثالث : ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته ، وهذا هو الأكثر . ومنه : قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ) الآية . والله أعلم .

                                                                                                                              قاله النووي .

                                                                                                                              وأما الكلام في المسألة ; فاعلم : أن الرضاع المقتضي للتحريم ، ورد [ ص: 477 ] مطلقا . كما في قوله سبحانه وتعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم ، في الحديث المتفق عليه : " يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم " . وفي لفظ : " من النسب " . ونحو ذلك من الأحاديث الواردة بهذا المعنى .

                                                                                                                              ثم ورد : تقييد هذا الرضاع المطلق ، بقيود وردت بها السنة ;

                                                                                                                              فمنها : حديث " عائشة " عند مسلم ، وغيره : (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : "لا يحرم المصة ولا المصتان ") وأخرج مسلم وغيره ، من حديث أم الفضل : (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أتحرم المصة؟ فقال : " لا تحرم الرضعة والرضعتان ، والمصة والمصتان ") . وفي لفظ لمسلم وغيره ، من حديثها : ما تقدم . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، من حديث عبد الله بن الزبير : (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " لا تحرم من الرضاعة : المصة والمصتان ") . قال الترمذي : الصحيح عن أهل الحديث ، من رواية ابن الزبير عن عائشة : كما في الحديث الأول . ورواه النسائي من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                              [ ص: 478 ] فهذه الأحاديث : تدل على أن المصة والمصتين ، لا تقتضيان التحريم . فهذا : التقييد الأول ، مما قيدت به تلك الإطلاقات .

                                                                                                                              التقييد الثاني : ما أخرجه الترمذي والحاكم ، وصححاه ، من حديث أم سلمة : (قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لا يحرم من الرضاع : إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ") .

                                                                                                                              ومعنى : " فتق الأمعاء في الثدي " : أي : في أيام الثدي . وذلك حيث يرضع الصبي منها . وأخرج سعيد بن منصور ، والدارقطني ، والبيهقي ، وابن عدي : (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا رضاع إلا ما كان في حولين ") . وأخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ، من حديث جابر ، (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : " لا رضاع بعد فصال ، ولا يتم بعد احتلام ") .

                                                                                                                              فهذه الأحاديث : تدل على أن الرضاع الواقع بعد الحولين : لا حكم له ، ولا يقتضي التحريم .

                                                                                                                              التقييد الثالث : ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، من حديث عائشة ، (قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعندي رجل . فقال : "من هذا ؟ قلت : أخي من الرضاعة . فقال [ ص: 479 ] "يا عائشة : انظرن من إخوانكن ؟ فإنما الرضاعة من المجاعة") .

                                                                                                                              فهذا الحديث : يدل على أن الرضاع ، إذا وقع بغير مجاعة من الصبي : لم يثبت حكمه .

                                                                                                                              التقييد الرابع : ما أخرجه أبو داود ، من حديث ابن مسعود ، مرفوعا : "لا رضاع إلا ما أنشر العظم ، وأنبت اللحم " . ولكن في إسناده : مجهولان ، فلا تقوم به حجة .

                                                                                                                              التقييد الخامس : " وعليه تدور الدوائر ، وبه يجتمع شمل الأحاديث ; مطلقها ومقيدها " ، وهو ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ، من حديث عائشة هذا . وله ألفاظ . وقد أخرج البخاري من حديثها : نحو ما في الباب . وأخرج مالك في الموطأ ، وأحمد ; من حديثها : (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال لسهلة . في قصة سالم :"أرضعيه خمس رضعات : تحرمي عليه") .

                                                                                                                              فهذا : يدل على أنها : لا تحرم إلا خمس رضعات . ولا يعارضه حديث : "لا تحرم المصة والمصتان ". لأن غاية ما فيه : الدلالة بالمفهوم : على أن ما فوقها يحرم . وحديث " الخمس" بمفهومه : على أن ما دون الخمس : لا يحرم . [ ص: 480 ] وكلاهما مفهوم عدد . لكنه يقوي حديث الخمس : أنه مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو قرآن يتلى .

                                                                                                                              ويقويه أيضا : أنه قد ذهب جماعة من أئمة البيان ، كالزمخشري في "الكشاف" : إلى أن الإخبار بالجملة الفعلية المضارعة : يفيد الحصر . ومفهوم الحصر : أرجح من مفهوم العدد .

                                                                                                                              ويقويه أيضا : ما أخرجه ابن ماجه ، من حديثها ، بلفظ: "لا يحرم إلا عشر رضعات ، أو خمس " . وهذه الصيغة ، تقتضي : " الحصر".

                                                                                                                              وإذا عرفت رجحان ما دل على أنه : لا يحرم إلا الخمس . وأن العشر منسوخة ، فلا يعارضه : ما دل على اعتبار الحولين ، بل يجمع بينهما : بأن الخمس في الحولين .

                                                                                                                              ولا يعارضه : ما دل على أن الرضاعة من المجاعة ، بل يجمع بينهما :

                                                                                                                              أنه يرضع الخمس في وقت الحاجة إليها.

                                                                                                                              ولا يعارضه أيضا : حديث : " الرضاع ما فتق الأمعاء " . لأن من المعلوم : أن الخمس الرضعات ، يفتقها بعضها

                                                                                                                              .ولا يعارضه أيضا : حديث : "لا رضاع إلا ما أنشر العظم ، وأنبت اللحم " ، على فرض صحته ، لأن الخمس الرضعات : لمن هي طعامه وشرابه : يؤثر في ذلك ، وإن لم يظهر للعيان

                                                                                                                              . [ ص: 481 ] وإذا تقرر لك هذا الجمع بين شمل الأحاديث : فاعلم أن حديث أم سلمة لعائشة : (إنه يدخل عليك الغلام الأيفع ، الذي ما أحب أن يدخل علي . فقالت عائشة : أما لك في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة ؟ وقالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله ! إن سالما يدخل علي ، وهو رجل . وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أرضعيه حتى يدخل عليك ") . أخرجه مسلم وغيره.

                                                                                                                              وهذا الحديث : قد رواه أمهات المؤمنين ، وغيرهن من الصحابة.

                                                                                                                              ورواه الجمع الجم من التابعين ، وهكذا من بعدهم . حتى قال بعض الأئمة : إن هذه السنة : بلغت رواتها نصاب التواتر.

                                                                                                                              والحاصل : أنه خاص ، يوقف على مثل من عرض له تلك الحاجة ، واحتاج إلى أن يدخل على امرأته : من لا يستغني عن دخوله بيته ، وتردده في حاجاته ومصالحه.

                                                                                                                              ومن رده بلا برهان ، فقد انتصب للرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى الشريعة المطهرة .

                                                                                                                              ومن قصره على سالم فقط ، فقد جاء مما لا يعقل ، ولا يوافق القواعد المقررة في الأصول.

                                                                                                                              وأجاب في "شرح المنتقى" : على كل إيراد ، أورده على خمس رضعات.

                                                                                                                              فراجع .




                                                                                                                              الخدمات العلمية