الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          المسألة السادسة

          مذهب الأكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل عقلا ، خلافا للجبائي [1] وجماعة من المتكلمين .

          ودليل جوازه عقلا : أنا لو فرضنا ورود الشارع بالتعبد بالعمل بخبر الواحد إذا غلب على الظن صدقه ، لم يلزم عنه لذاته محال في العقل ، ولا معنى للجائز العقلي سوى ذلك .

          وغاية ما يقدر في اتباعه احتمال كونه كاذبا أو مخطئا .

          وذلك لا يمنع من التعبد به ، بدليل اتفاقنا على التعبد بالعمل بقول المفتي ، والعمل بقول الشاهدين ، مع احتمال الكذب والخطأ على المفتي والشاهد فيما أخبرا به .

          فإن قيل : وإن سلمنا أنه لو ورد الشرع بذلك لم يلزم عنه لذاته محال ، وأنه ليس محالا لذاته عقلا ، لكنه محال عقلا باعتبار أمر خارج عن ذاته ، وذلك لأن [ ص: 46 ] التكاليف مبنية على المصالح ودفع المفاسد ، فلو تعبدنا باتباع خبر الواحد والعمل به ، فإذا أخبر بخبر عن رسول الله بسفك دم ، واستحلال بضع محرم ، مع احتمال كونه كاذبا ، فلا يكون في العمل بمقتضى قوله مصلحة بل محض مفسدة ، وهو خلاف وضع الشرع .

          ولهذا امتنع ورود التعبد ؛ ومعناه بخبر الفاسق والصبي ، فيما يتعلق بالأحكام الشرعية إجماعا [2] .

          وأما ما ذكرتموه من التعبد بالعمل بقول الشاهدين ، فالفرق بين الشهادة والخبر من ثلاثة أوجه :

          الأول : أن الشهادة إنما تقبل فيما يجوز فيه الصلح ، ولا كذلك الخبر عن الله تعالى والرسول فكانت المفسدة في الشهادة أبعد .

          الثاني : أن الخبر يقتضي إثبات شرع بخلاف الشهادة .

          الثالث : هو أن الحكم عند الشهادة إنما يثبت بدليل قاطع وهو الإجماع ، والشهادة شرط لا مثبت ، بخلاف خبر الواحد ، فإنه عندكم دليل مثبت للحكم الشرعي .

          ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز التعبد بخبر الواحد إلا أنه معارض بما يدل على نقيضه ، وبيانه من جهة المنقول والمعقول .

          أما المنقول ، فقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .

          وأما المعقول ، فمن أربعة أوجه :

          الأول : أنه لو جاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول عند ظننا بصدقه ، لاحتمال كونه مصلحة ، لجاز ورود التعبد بقبول خبر الواحد عن الله تعالى بالأحكام الشرعية ، وذلك دون اقتران المعجزة بقوله محال .

          الثاني : أنه لو جاز ورود التعبد بخبر الواحد في الفروع ، لجاز ورود التعبد به في [ ص: 47 ] الأصول ، وليس كذلك [3] .

          الثالث : أنه لو جاز التعبد بقبول خبر الواحد لجاز التعبد به في نقل القرآن ، وهو محال .

          الرابع : أن أخبار الآحاد قد تتعارض ، فلو ورد التعبد بالعمل بها ، لكان واردا بالعمل بما لا يمكن العمل به ضرورة التعارض ، وهو ممتنع على الشارع .

          والجواب عن السؤال الأول من وجهين :

          الأول : أنه مبني على وجوب رعاية المصالح في أحكام الشرع وأفعاله ، وهو غير مسلم على ما عرفناه في الكلاميات [4] .

          الثاني : أن ما ذكروه منتقض بورود التعبد بقبول شهادة الشهود [5] وقول المفتي ، وما ذكروه من الفروق فباطلة ، أما الفرق الأول فمن وجهين :

          الأول : أنه لا يطرد في الأخبار المتعلقة بأنواع المعاملات .

          الثاني : أنه ينتقض بالشهادة فيما لا يجري فيه الصلح ، كالدماء والفروج [6] .

          وأما الفرق الثاني : فمن جهة أن الخبر كما يستلزم إثبات أمر شرعي ، كالشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك ، يستلزم إثبات أمر شرعي ، وهو وجوب القتل والقطع .

          وأما الثالث : فمن جهة أنه لا فرق بين الخبر والشهادة من حيث إنه لا بد عند الشهادة من دليل يوجب العمل بها ، كما في العمل بالخبر .

          وأما المعارضة بالآيات ، فجوابها من وجهين : [ ص: 48 ] الأول : أنا نقول بموجبها ، وذلك أن العمل بخبر الواحد ووجوب اتباعه إنما هو بدليل مقطوع به ، مفيد للعلم بذلك ، وهو الإجماع .

          الثاني : أنه لازم على الخصوم في اعتقادهم امتناع التعبد بخبر الواحد ، إذ هو معلوم بدليل قاطع ، بل غايته أن يكون مظنونا لهم ، فالآيات مشتركة الدلالة ، فكما تدل على امتناع اتباع خبر الواحد ، تدل على امتناع القول بعدم اتباعه ، وإذا تعارضت جهات الدلالة فيها ، امتنع العمل بها ، وسلم لنا ما ذكرناه [7] .

          وعلى هذا ، نقول بجواز ورود التعبد بقبول خبر الفاسق والصبي عقلا ، إذا غلب على الظن صدقه وإن كان ذلك غير واقع [8] .

          وما ذكروه من المعارضات العقلية ، فجوابها من وجهين ؛ أحدهما عام للكل ، والثاني خاص بكل واحد منها .

          أما العام فهو أن ما ذكروه إلزاما علينا في خبر الواحد ، فهو لازم عليهم في ورود التعبد بقبول قول الشاهدين والمفتي ، فما هو جوابهم عنه يكون جوابا لنا في خبر الواحد .

          وأما ما يخص كل معارضة : أما الأولى ، فالجواب عنها من وجهين .

          الأول : هو أن دعوى الواحد للرسالة ونزول الوحي إليه من أندر الأشياء ، فإذا لم يقترن بدعواه ما يوجب القطع بصدقه فلا يتصور حصول الظن بصدقه [ ص: 49 ] بل الذي يجزم به إنما هو كذبه ، ونحن وإن قلنا بجواز ورود التعبد بخبر من يغلب على الظن صدقه ، فقد لا نسلم جواز ورود التعبد بقول من غلب على الظن كذبه .

          الثاني : هو أنا إذا جوزنا ورود التعبد بخبر الواحد فوجوب العمل به لا بد وأن يستند إلى دليل قاطع من كتاب أو سنة أو إجماع ، ولا كذلك المدعي للرسالة ؛ إذا لم تقترن بقوله معجزة تدل على وجوب العمل بقوله .

          فإن قيل : فلو بعث رسول ، وظهرت المعجزة القاطعة الدالة على صدقه ، ثم قال : مهما أخبركم إنسان بأن الله تعالى أرسله بشريعة ، وظننتم صدقه ، فاعملوا بقوله ، فقد استند وجوب العمل بقوله إلى دليل قاطع ، وهو قول النبي الصادق ، ومع ذلك ، فإنه لا يجوز [9] .

          قلنا : لا نسلم ، مع فرض هذا التقدير ، أنه لا يجوز الأخذ بقوله ، ثم الفرق بين الأمرين هو أن المفسدة اللازمة من قبول قول المدعي للرسالة من غير معجزة أعظم من مفسدة قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية .

          وذلك ؛ لأن رئاسة النبوة أعظم من كل رئاسة ، ورتبتها أعلى من كل رتبة ، فلو ورد التعبد باتباع كل مدع للرسالة إذا غلب على الظن صدقه من غير معجزة دالة على صدقه ، فما من أحد من الناس إلا وقد يسلك المسالك المغلبة على الظن صدقه ، ويتوخى من الأفعال والأقوال ما تظهر به عدالته ، طمعا في نيل مثل هذه الرئاسة العظمى بمجرد دعواه .

          وذلك يفضي إلى أن كل واحد يدعي نسخ شريعة الآخر ورفعها على قرب من الزمان ، ولا يخفى ما في ذلك من المفسدة التي لا تحقق لمثلها في خبر الواحد .

          [ ص: 50 ] وأما المعارضة الثانية ، فجوابها أن المعتبر في الأصول القطع واليقين ، ولا قطع في خبر الواحد ، بخلاف الفروع ، فإنها مبنية على الظنون [10] .

          وأما المعارضة الثالثة ، فجوابها أن القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ، ولا بد وأن يكون طريق إثباته قاطعا ، وخبر الواحد ليس بقاطع ، بخلاف أحكام الشرع فإن ما يثبت منها بخبر الواحد ظنية غير قطعية .

          وأما المعارضة الرابعة ؛ فجوابها أن التعارض بين الخبرين لا يمنع من العمل بما يرجح منها .

          وبتقدير عدم الترجيح مطلقا ، فقد يمكن أن يقال بالتخيير بينهما على ما هو مذهب الشافعي .

          وبتقدير امتناع التخيير ، فغايته امتناع ورود التعبد بمثل الأخبار التي لا يمكن العمل بها ، ولا يلزم منه امتناع ورود التعبد بما أمكن العمل بمقتضاه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية