الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          فإن قيل : ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر الواحد حجة أخبار آحاد ، وذلك يتوقف على كونها حجة ، وهو دور ممتنع .

          [ ص: 67 ] سلمنا عدم الدور ، ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها ، بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس ، أو قرائن الأحوال ، أو غير ذلك من الأسباب .

          سلمنا أنهم عملوا بها لا غير ، لكن كل الصحابة أو بعضهم ، الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه ، والثاني مسلم ، لكن لا حجة فيه .

          قولكم لم يوجد له نكير ، لا نسلم ذلك ، وبيانه من وجوه : منها رد أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة .

          ومنها رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص .

          ومنها رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان ، وهو قوله : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثا فلم يؤذن له ، فلينصرف " حتى روى معه أبو سعيد الخدري .

          ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة ، وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه ، سوى أبي بكر .

          ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .

          سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهرا ، غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع .

          سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه [1] بالقبول ، وعملوا بموجبه ، أو مطلقا في كل خبر ، الأول مسلم ، وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعا ، نفيا للخطأ عن الإجماع ، والثاني ممنوع .

          وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه .

          [ ص: 68 ] سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة ، لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ، وبيانه من جهة المعقول والمنقول ، أما المنقول ، فمن جهة الكتاب والسنة .

          أما الكتاب : فقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن ) ذكر ذلك في معرض الذم ، والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن ، فكان ممتنعا [2] .

          وأما السنة ، فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين ، وهو قوله : ( أقصرت الصلاة أم نسيت ) حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه ، فأتم وسجد للسهو .

          وأما المعقول فمن وجوه :

          الأول : أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع ، لجاز ذلك في الرسالة والأصول ، وهو ممتنع [3] .

          الثاني : أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق ، وهو مقطوع به ، فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنونا .

          الثالث : أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد ؛ لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له .

          الرابع : أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد ، فلا يجوز للمجتهد ذلك ، كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر .

          والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار ، وإن كانت آحادها آحادا ، فهي متواترة من جهة الجملة ، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة .

          وعن الثاني : أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية ، لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ، ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر [ ص: 69 ] من الأخبار .

          كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر : ( لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا ، وقول ابن عمر ( حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، فانتهينا ) وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك ، وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها .

          وعن الثالث : أن عمل بعض الصحابة ، بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك ، كما سبق تقريره في مسائل الإجماع .

          وما رووه [4] من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط ، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها ، مع كونهم متفقين على العمل بها .

          ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة ، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها .

          وعن الرابع : أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه ، أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن ، وليس كذلك ، بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ، والعمل بالقياس على ما يأتي .

          وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد ، لكونه ظنيا مضبوطا بالعدالة ، كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولا بها ؛ ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة ، وذلك يعم خبر كل عدل .

          وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلا .

          وعن السنة ، أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير .

          ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه [5] فحيث وافقه الباقون على ذلك ، ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين ، وعمل بموجب خبره .

          كيف وإن [ ص: 70 ] عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما ، مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر ، وهو موضع النزاع ، وفي تسليمه تسليم المطلوب .

          وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة .

          كيف والفرق حاصل . وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي ، فلم يكن الدليل الظني معتبرا فيها ، بخلاف الفروع [6] .

          وعن الثانية من وجهين :

          الأول : أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر . بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل ، فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون .

          الثاني : أنه منتقض بالشهادة والفتوى .

          وعن الثالث : أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به ، وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ؛ لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له ، بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له [7] ، ولما ساغ أيضا للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ، ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له ، لجواز وجود ما يعارضه ، وذلك خلاف الإجماع .

          وعن الرابع : أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم ، لاستوائهما في درجة الاجتهاد ، وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ، ولا كذلك المجتهد مع الراوي ، فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه .

          وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك .

          [ ص: 71 ] وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية ، فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك .

          ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة ، ( والله أعلم بالصواب ) [8] .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية